تابع " سير المتقين وأخبارهم "
تابع " سير المتقين وأخبارهم "
3- الصحابية أم سليم بنت ملحان الأنصارية:
تقديم:
أم سليم صحابية أنصارية، أسلمت فملك عليها الإسلام نفسها، فلم يبق لغير الإسلام فيها شيء، لم تجامل زوجها الكافر، فرحل عنها، ومات غريباً كافراً، وتزوجت بعده أحد أثرياء المدينة، وكان كافراً، فجلعت مهرها منه إسلامه، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، فجعلت ابنها أنساً خادماً له، فخدمه عشر سنين، فاستفاد صحبته وعلمه وأدبه وكونت أم سليم أسرة ظللها الإسلام بظلَّه، واتصلت هذه الأسرة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاز أعضاؤها كلهم، وسعدوا.
ترجمة أم سليم:
1- التعريف بأم سليم: اشتهرت هذه المرأة الصالحة بكنيتها، وهي أم سليم، وأصحُّ ما قيل في اسمها أنها الغميصاء أو الرُّميصاء، وهي بنت ملحان ابن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، الخزرجية الأنصارية [سير أعلام النبلاء].
وهي والدة الصحابي الجليل أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء الإسلام، فشرق زوجها بالإسلام، وخرج من المدينة، وهلك بالشام.
2- زواج مهره إسلام الزوج: خطب أم سليم بعد هلاك زوجها أبو طلحة، وهو زيد بن سهل بن الأسود النجاري الخزرجي، فقالت له: " أنت كافر، وأنا مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري، فأسلم، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وبقى مجاهداً من بعده، وتوفي في سفينة تجري على ثبج البحر، ودفنوه بعد سبعة أيام في جزيرة نائبة غير معروفة ".
3- قوة علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بها وبأسرتها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بيتها، وكان يقبل عندها، وكانت تجمع عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام، وتضعه في قوارير، وتدوف به طيبها، وطيب أهلها، وكانت تهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تمر بساتين زوجها، فيقبله منها، وكان زوجها يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي صحبة العدد الكبير من أصحابه، فيدعو الرسول صلى الله عليه وسلم بالطعام القليل، فيكفي العدد الكثير.
وقد دعا لها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا لابنها أنس، وأخبر أنها في الجنة.
4- قوة قلبها: وكانت تصحب زوجها في غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتخذت في بعض تلك الغزوات خنجراً لتجأ به بطن من يقترب منها من الكفار.
5- قوة شخصيتها وقوة فقهها في دينها: وقد كانت أم سليم قوية الشخصية، تعقل ما تسمعه، وتتصرف وفق ما تراه صواباً، وقد رأينا كيف سارعت إلى الدخول في الإسلام، وكيف اقتنعت به، واستوعبت أنه الحق، وأن غيره من الأديان باطل،وبخاصة تلك الأصنام التي كانت تعبد في المدينة المنورة والجزيرة العربية، لقد فقهت أنها آلهة باطلة، لا تستحق أن تعبد من دون الواحد الأحد، وقد عارضها زوجها مالك بن النضر فيما ذهبت إليه، فلم تلتفت إلى معارضته، وكانت تلقن ابنها الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا يرضي تصرفها زوجه، ويحاول أن يصدها عن ذلك، فلا تقبل منه.
وعندما كانت تفعل ذلك، وتقول لأنس: " قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن محمداً رسول الله " كان يقول لها زوجها: لا تفسدي عليّ ابني، فتقول: " إنني لا أفسده " [طبقات ابن سعد] وقد رأى منها زوجها ما عكَّر مزاجه، وأطار صوابه، فخرج من المدينة إلى الشام، وهناك هلك.
6- كيف اختارت زوجها: مات الزوج، وأصبحت أم سليم غير ذات زوج، وطمع في الاقتران بها بعض أفذاذ الرجال، لقد جاءها أبو طلحة خاطباً، وكان مثله مناسباً، تتمناه أي امرأة في المدينة، ولكنها بسهولة ويسر حسمت أمرها، وخاطبته بوضوح وصراحة: " يا أبا طلحة، ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة، لا يصح لي أن أتزوجك ".
وقالت له أيضاً: " فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره " [الطيالسي، بوساطة: أحكام الجنائز].
وقالت لأبي طلحة قبل أن يدخل الإسلام تحاجّه: " أرأيت حجراً تعبده، لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبه تأتي بها النجار، فينجرها لك، هل يضرك؟ هل ينفعك؟ " قال أبو طلحة: " فوقع في قلبي الذي قالت " [سير أعلام النبلاء،هامش الكتاب نقلاً عن ابن سعد في الطبقات].
وذكر ابن سعد في طبقاته [بإسناد صحيح] أن أم سليم قالت لأبي طلحة: " إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان، وأنكم لو أشعلتهم فيها النار لاحترقت؟ ".
لقد كانت الحجج التي ساقتها أم سليم حججاً قوية، سهلة الفهم، فاقتنع أبو طلحة، ودخل في الإسلام، وكان إسلامه هو المهر الذي طلبته الزوجة لم ترد المال والملابس والذهب والفضة إنها تريد الإسلام دون سواه لتقترن به.
7- عناية أم سليم باليتيمة التي كفلتها: وجاءت أم سليم يتيمة لها، وشكت إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيها، فدعا عليها بأن لا يكبر سنُّها، فأذهلها ما سمعت وانطلقت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مسرعة تلوث خمارها، حتى لقيته، فوضَّح لها ما غاب عنها، فعن أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس (يعني أم سليم هي أم أنس) فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: «آنت هية؟ لقد كبرت، لا كبر سنُّك» فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية ! قالت الجارية: دعا عليّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سنِّي، فالآن لا يكبر سنِّي أبداً، أو قالت: قرني،فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمرها، حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما لك يا أمَّ سليم ! " فقالت: يا نبي الله ! أدعوت على يتيمتي؟ قال: «وما ذاك يا أمَّ سليم !» قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنُّها، ولا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يا أمَّ سليم ! أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشرٌ، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحدٍ دعوت عليه، من أمتي، بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ، أن تجعلها لها طهوراً وزكاة وقربة تقرِّبه بها منه يوم القيامة».
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقنعاً لأم سليم فيما علل به دعوته، فعادت بعد علمها أن دعوة الرسول تزيد يتيمتها أجراً، ولا تضيرها.
8- قصة أم سليم عندما توفي انبها: كان لأبي طلحة وأم سليم ولد يحبانه حبّاً شديداً، ومرض الطفل، وتضعضع أبو طلحة لمرض ولده، وفي ويوم خرج أبو طلحة للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء فمات الغلام، فطلبت أم سليم من أهل دارها أن لا يعلم أحد منهم أبا طلحة بموت ولده، فلما عاد مع جمع من أصحابه، سأل عن الغلام، فأخبرته أنه أسكن ما يكون، وقدمت له ولأصحابه العشاء، وبعد أن أويا إلى فراشهما تزينت وتطيبت، فنال منها ما يناله المرء من زوجته، وفي الصباح أخبرته بما كان بطريقة فيها كثير من الروية والحكمة، فالمال والأهلون ودائع، ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع.
فأصبح أبو طلحة يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان منهما في ليلتهما، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " اللهم بارك لهما " فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني، قالت أم سليم: هو أسكن ما كان فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: وراوا الصبي.
فلما أصبح أبو طلحة أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «أعرستم الليلة؟» قال: نعم، قال: «اللهم بارك لهما» فولدت غلاماً.
قال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم، تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذ من فيه فجعلها في في الصبي وحنكه به، وسماه عبد الله [البخاري ومسلم].
قليل من النساء والرجال يستطيع أن يفعل فعل أم سليم، فقد أفرغ الله عليها من الصبر أمراً عجباً، فقد عشَّت زوجها وأصحابه، وعندما خرج الضيوف تعطرت وتزينت، وواقعها زوجها، وقد أكرمها الله تعالى، فكانت عاقبتها إلى خير.
9- فعل أم سليم في الحروب: كانت أم سليم تخرج مع المقاتلين في الحروب، وتشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزواته، وكانت تداوي المرضى، وتقوم على الجرحى، وتنقل الماء على ظهرها، فتفرغه في أفواه المقاتلين، وقد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعد أن أنزل الله عليه نصره، وأمده بجند من عنده قائلة له: " يا رسول الله، اقتل من بعدنا من الطلقاء، انهزموا بك يا رسول الله " فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا أم سليم، إن الله كفانا وأحسن» [مسند أحمد. قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين].
ومما يدل على قوة قلبها أنها اتخذت خنجراً، تريد به بعج بطن من يريدها من الأعداء، وقد أخبرنا أنس رضى الله عنه: " أن أبا طلحة جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سليم، قال: يا رسول الله، ألم تر إلى أم سليم معها خنجر " فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما تصنعين به يا أم سليم؟» قالت: " أردت إن دنا مني أحد طعنته به " [مسند أحمد وقال محقوه: صحيح على شرط مسلم].
4- الصحابي الجليل عاصم بن ثابت قيس:
تقديم:
عاصم بن ثابت صحابي جليل، أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلّة من أصحابه إلى هذيل بناءً على طلب طائفة منهم، ليعلمهم، فغدروا بهم، وأرادوا أسرهم، فأبى عاصم أن يعطيهم نفسه، وقاتلهم، فرماهم بنبل حتى فنيت نباله، وطاعنهم برمحه، حتى انكسر رمحه، وقتل رجلاً منهم، وجرح اثنين، ودعا ربه أن يحمي جسده من المشركين كما حمى دينه، فأجاب الله دعاءه.
ترجمته:
1- التعريف به: قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في ترجمته: عاصم بن ثابت بن قيس، يكنى أبا سليمان، شهد بدراً وأحداً، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حين ولّى الناس وبايعه على الموت.
وكان من الرماة المذكورين، وقتل يوم أحد من أصحاب لواء المشركين مسافعاً والحارث، فنذرت أمهما سلافة بنت سعد أن تشرب في قحف (العظم الذي فوق الدماغ، أو ما انفلق من الجمجمة وانفصل) عاصم الخمر، وجعلت لمن جاءها برأسه مائة ناقة.
2- قوة عاصم في دينه: فقدم ناس من هذيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه أن يوجه معهم من يعلِّمهم، فوجَّه عاصماً في جماعة، فقال لهم المشركون: استأسروا، فإنا لا نريد قتلكم، وإنما نريد أن ندخلكم مكة، فنصيب بكم ثمناً. فقال عاصم: لا أقبل جوار مشرك، وجعل يقاتلهم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم، حتى انكسر رمحه، فقال: " اللهم إني حميت دينك أول النهار فاحم لحمي آخره " فجرح رجلين وقتل واحداً، وقتلوه، فأرادوا أن يحتزّوا رأسه فبعث الله الدَّبر (ذكور النحل، أو الزنابير) فحمته، ثم بعث الله إليه سيلاً في الليل فحمله، وذلك يوم الرَّجيع (كان ذلك سنة 3هـ، والرجيع: ماء لبني هذيل قرب مكة).
وعن بريدة بن سفيان الأسلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عاصم بن ثابت وزيد بن الدَّثنة، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد، إلى بني لحيان بالرجيع فقاتلوهم،حتى أخذوا أماناً لأنفسهم إلا عاصماً فإنه أبى، وقال: لا أقبل اليوم عهداً من مشرك، ودعا عند ذلك، فقال: اللهم إني أحمي لك دينك، فاحم لي لحمي، فجعل يقاتل وهو يقول:
وكلُّ ما حمَّ الإله نازل بالمرء، والمرء إليه آئل
قال: فلما قتلوه قال بعضهم لبعض: هذا الذي آلت فيه المكية وهي سلافة، فأرادوا أن يختزّوا رأسه ليذهبوا به إليها، فبعث الله عز وجل رجلاً من دبرٍ فلم يستطيعوا أن يحتزّوا ألف (أنا) في أول الأبيات، لا تلفظ هنا، ليستقيم الوزن، والعنابل: الغليظ الشديد. وهابل: ثاكل، وحمَّ الإله الأمر: قدَّره، وآثل: صائر وراجع، وآلت: حلفت، ورجلاً: النحل الكثير) رأسه، رواه أبو يعلى الأصبهاني [صفة الصفوة].
مختارات