" قصص المتقين وأخبارهم "
" قصص المتقين وأخبارهم "
كان الصالحون الأخيار من البشر على التقوى قديماً وحديثاً، ومن ينظر في سير المتقين من الأولين والآخرين، يجد مسارهم واحداً، ومعالمهم واحدة، وقد حوى هذا المبحث مطلبين، الأول: حسن الخاتمة لأولياء الله المتقين. والثاني: سير بعض المتقين من الأمم السابقة، ومن هذه الأمة، والمتقون من هذه الأمة بعضهم من الصحابة والصحابيات، وبعضهم من التابعين وأتباع التابعين.
" حسن خاتمة أولياء الله المتقين "
من الصفات المشتركة بين المتقين حسن الخاتمة عندما يأتيهم الموت ويحضرهم، فكلهم يأتيه الموت وقد استنار وجهه، وظهرت البشرى على مظهره، وقد يحدِّث بما يراه في ذلك الموقف العصيب.
1- فمن هؤلاء الحافظ السِّلفي، فإنه مات عن ست ومائة من السنين، فلما حضره الأجل لمز يزل يقرأ الحديث عليه إلى أن غربت الشمس من ليلة وفاته، وهو يردُّ على القارئ اللحن الخفي، وصلَّى يوم الجمعة الصبح عند انفجار الفجر، وتوفي بعدها [سير أعلام النبلاء].
2- ومنهم الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي.
قال أبو موسى: " مرض أبي في ربيع الأول مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام، واشتد ستة عشر يوماً، وكنت أسأله كثيراً: ما يشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة، أشتهي رحمة الله، لا يزيد على ذلك، فجئته بماء حار فمدّ يد، فوضأته وقت الفجر، فقال: يا عبد الله، قم صلِّ بنا وخفف، فصلَّيت بالجماعة، وصلَّى جالساً، ثم جلست عند رأسه، فقال: أقرأ يس، فقرأتها، وجعل يدعو وأنا أؤمّن، فقلت: هنا دواء تشربه، قال: يا بني ما بقي إلا الموت، فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه، فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى والله، فقلت: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحد شيء، ولا لأحد عليَّ شيء، قلت: توصيني، قال: أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته، فجاء جماعة يعودونه، فسلموا، فردّ عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال: ما هذا؟ اذكروا الله، قولوا: لا إله إلا الله، فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه، ويشير بعينيه، فقمت لأناول رجلاً كتاباً من جانب المسجد فرجعت، وقد خرجت روحه، رحمه الله " [سير أعلام النبلاء].
3-ومنهم الشيخ الصالح أبو البركات، إسماعيل بن أبي سعيد أحمد بن محمد ابن دوست النيسابوري، قال ابن سكينة: كنت حاضراً لما احتضر، فقالت له أمي: يا سيدي، ما تجد؟ فما قدر على النطق، فكتب على يدها: " فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ " [الواقعة: 89] ثم مات [سير أعلام النبلاء].
4- ومن هؤلاء أبو الوقت الشيخ الإمام الزاهد الخير، شيخ الإسلام، مسند الآفاق، عبد الأول بن الشيخ المحدث المعمر أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السِّجزيُّ، ثم الهرويُّ المالينيّ.
قال يوسف بن أحمد الشيرازي في " أربعين البلدان " له: لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدَّر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعوَّلي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إليَّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة أنفاسك، وأحظى بعلوِّ إسنادك.
فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حقَّ معرفتي، لما سلَّمت عليّ، ولا جلست بين يديَّ، ثم بكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا.
يا ولدي، تعلم أني رحلت أيضاً لسماع " الصحيح " ما شياً مع والدي من هراة إلى الداووديِّ ببوشنج، ولي دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يديَّ حجرين، ويقول: احملهما، فكنت من خوفه أحفظهما بيديَّ، وأمشي وهو يتأمَّلني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجراً واحداً، فألقي ويخفُّ عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول لي: هل عييت؟ فأخافه، وأقول: لا، فيقول: لم تقصِّر في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعةً، ثم أعجز، فيأخذ الآخر، فيلقيه، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني.
وكنا نلتقي جماعة الفلاحين وغيرهم، فيقولون: يا شيخ عيسى، ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نمشي، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالاً لحديث رسول الله ورجاء ثوابه.
فكان ثمرة ذلك من حسن نيته أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبق من أقراني أحد سواي، حتى صارت الوفود ترحل إليّ من الأمصار، ثم أشار إلى صاحبنا عبد الباقي بن عبد الجبار الهرويِّ أن يقدِّم لي حلواء، فقلت يا سيدي، قراءتي لجزء أبي الجهم أحُّب إليّ من أكل الحلواء، فتبسَّم، وقال: إذا دخل الطعام خرج الكلام، وقدّم لنا صحناً فيه حلواء الفانيذ، فأكلنا، وأخرجت الجزء، وسألته إحضار الأصل، فاحضره، وقال: لا تخف ولا تحرص، فإني قد قبرت ممن سمع عليّ خلقاً كثيراً، فسل الله السلامة.
فقرأت الجزء، وسررت به، ويسَّر الله سماع " الصحيح " وغيره مراراً، ولم أزل في صحبته وخدمته إلى أن توفي ببغداد. قلت: وبيَّض لليوم وهو سادس الشهر قال: ودفنّاه بالشُّونيزيَّة. قال لي: تدفني تحت أقدام مشايخنا بالشُّونيزية، ولما احتضر سندته إلى صدري، وكان مستهتراً بالذكر، فدخل عليه محمد بن القاسم الصوفيُّ، وأكبَّ عليه، وقال: يا سيدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» فرفع طرفه إليه، وتلا: " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ " [يس: 26- 27] فدهش إليه هو ومن حضر من الأصحاب، ولم يزل يقرأ حتى ختم السورة، وقال: الله الله الله، وتوفي وهو جالسٌ على السجادة [سير أعلام النبلاء].
5- ومنهم الشيخ العالم القدرة المفتي شيخ الشافعية فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي الشافعي.
قال أبو شامة: أخبرني من حضره قال: صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، وتوضأ ثم تشهَّد وهو جالس، وقال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، لقّنني الله حجتي، وأقالني عثرتي، ورحم غربتي،ثم قال: وعليكم السلام، فعلمنا أنه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتاً [سير أعلام النبلاء].
مختارات