" الجزاء الأخروي لآكل الحرام "
" الجزاء الأخروي لآكل الحرام "
أولًا: الظلم ظلمات يوم القيامة:
لا شك أن أكل المال بالباطل، واكتسابه من طريق غير مشروع ظلم للآخر، وتعد على حقه، وهذا الظلم يأتي جزاؤه مضاعفاً يوم القيامة.
والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، وفسره إياس بن معاوية وغيره بأنه: التصرف في ملك الغير بغير إذنه (ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم).
قلت: والمال الحرام ملك للغير، فيدخل في قول إياس دخولاً أولياً، وهو حرام على الغير ملكاً وتصرفاً.
وقد لعن الله تعالى الظالمين في قوله: " أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " [هود:18] واستحقوا هذه اللعنة جزاء لما ارتكبته أيديهم الآثمة من ظلم العباد، والله تعالى غير غافل عما يعمله الظالمون، ومعنى هذا مؤاخذته سبحانه لهم يوم القيامة، قال تعالى: " وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " [إبراهيم:42].
والظالم يتخلى عنه الصديق والحميم والقريب في الدنيا، وليس له ناصر ولا شفيع في الآخرة: " مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ " [غافر: 18].
وقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه. وجعله محرماً بين العباد.
عن أبي ذر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى: أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا...» (مسلم) الحديث.
والظلم يأتي مضاعفاً يوم القيامة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة..» (مسلم) الحديث.
والله تعالى يملي للظالم ولكن لا يهمله دون عقاب.
عن أبي موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: " وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " [هود: 102] (مسلم).
فهذه أدلة واضحة على تحريم الظلم وأنه يأتي يوم القيامة مضاعفًا، وأن الله تعالى توعد الظالمين بالعقاب الشديد، ولا ريب أن أكل المال الباطل من أنواع هذا الظلم؛ وحقوق العباد لا بد فيها من القصاص، بردها أو الاستحلال من صاحبها، ولا يكفرها التوبة إذ من شروط التوبة رد المظالم إلى أهلها، ولا يكفرها العبادة أو الأعمال الصالحة، بل ولا الجهاد ذروة سنام الإسلام، حتى ولا الاستشهاد في سبيل الله، إذ هي من الحقوق التي لا مناص من استيفائها في الدنيا أو الآخرة.
وسأذكر بعض الأدلة على ذلك:
1 -أخرج البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» ( الإمام النووي: رياض الصالحين).
والمال الحرام إذا لم يُردَّ إلى صاحبه فإنه دين يبقى في ذمة آكله، أو هو بمثابة الدَّين، بل أعظم منه حيث لا يكفره شيء حتى ولا الشهادة في سبيل الله أو الجهاد فيه، ولأنه لم يؤخذ ابتداء عن طيب نفس كالدين.
2 - وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله: تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف قلت؟» قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإنه جبريل قال لي ذلك» (مسلم).
3- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين» (مسلم).
فهو من حقوق العباد التي لا بد فيها من الرد والاستحلال أخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ " [النساء: 48] وقال: " إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " [المائدة: 72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة، فإن الله لا يغفر ذلك، ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعضًا، القصاص لا محالة» تفرد به أحمد (راجع ابن كثير، التفسير، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بأن في سنده صدقة بن موسى، وفيه يزيد بن بامبوسا فيه جهالة، وقال الهيثمي: في سند أحمد صدقة بن موسى، ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات).
فلابد إذن من رد الحقوق إلى أهلها في الدنيا أو الاستحلال منها قبل أن تؤخذ منه حسنات في الآخرة، أو يتحمل من أوزار من ظلمه قدرها.
1- وشبه النبي صلى الله عليه وسلم حق الآخرين بأنه قطعة من النار، فيما رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها (راجع نص الحديث في اللؤلؤ والمرجان والنووي في رياض الصالحين).
وأخذ الحقوق من أهلها يوم القيامة يتعدى الإنسان إلى غيره من المخلوقات.
2- عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (مسلم).
مما تقدم تبين أن حقوق العباد لا تسقط إلا باستيفائها في الدنيا أو الاستحلال من صاحبها وأنها ظلم للعباد يأتي مضاعفاً يوم القيامة، ومن ذلك المال والكسب الحرام.
ثانيًا: مصير آكل الحرام في الآخرة:
وأكل الحرام خزي وعار في الدنيا، وربما كان سببًا لفساد الذرية؛ وعدم التوبة منه يكون سببًا من أسباب إفلاس العبد يوم القيامة: أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (مسلم).
وإذا كان أكل أموال الناس بالباطل سببًا من أسباب دخول النار فإنه كذلك سبب يمنع من دخول الجنة، حيث تكون النار أولى بكل لحم نبت من سحت.
عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام» (رواه أبو يعلى، والبزار والطبراني في الأوسط، والبيهقي، وبعض أسانيدهم حسنة راجع المنذري في الترغيب والترهيب).
لهذا وغيره: يجب على المسلم أن يتحرى طلب الحلال في كسبه ومعاشه وسائر حالاته، وأن يتجنب الحرام في جميع شؤونه حتى ينجو من عقاب الله تعالى، وينبغي عليه كذلك أن يتقي الشبهات حتى لا يصادف الحرام من حيث لا يدري.
مختارات