تابع " العبادة والاستعانة ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) "
تابع " العبادة والاستعانة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) "
9- تحقيق العبودية: ولا تتحقق العبادة إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: إخلاص العبادة لله تعالى دون شرك ولا رياء.
ثانيهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الابتداع في الدين.
قال تعالى: " فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " [الكهف: 110].
والعمل الصالح هو الذي لا يشوبه شرك ولا بدعة، بأن يكون عملًا خالصًا لوجه الله تعالى، صوابًا موافقًا لهدي محمد صلى الله عليه وسلم .
والناس – بحسب هذين الأصلين – منقسمون إلى أربعة أقسام:
الأول: المخلص في عبادته، المتبع لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أهل الإخلاص والمتابعة.
الثاني: من لا إخلاص عنده ولا متابعة، فعمله ليس خالصًا لله تعالى ولا موافقًا للشرع.
الثالث: من هو مخلص لله تعالى في عبادته، ولكن على غير متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم عن جهل منه أو عمد.
الرابع: من كانت أعماله على المتابعة، لكنها لغير الله تعالى، كطاعة المرائين.
ولا تصح العبادة إلا إذا كانت خالصة لله تعالى موافقة لهدي محمد صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى النجاة إلا بذلك.
10- عبادة القلب واللسان والجوارح:
وتكون العبادة بقول اللسان، واعتقاد القلب، وعمل الجوارح.
فالعبادة تنتظم الجسم والروح والعقل والقلب، وهي اسم جامع لهذه المراتب الأربع:
1- فعبادة القلب: اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه على لسان رسله، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته، ولقائه، وجنته وناره.
2- وعمل القلب: كمحبته لله تعالى، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيه، والإخلاص له، والرضى بقضاءه وقدره...إلخ.
3- وقول اللسان: تبليغ أوامر الله سبحانه، والقيام بذكره، والدعوة إليه، وبيان الحق وبطلان البدع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...إلخ.
4- وأعمال الجوارح: كالصلاة، والجهاد، وأنواع الذكر؛ كالتسبيح والتكبير والتهليل، ومساعدة العاجز، وكثرة الخطى إلى المساجد، وإصلاح ذات البين...إلخ.
والأعمال الصادرة من القلب واللسان والجوارح إما أن تكون واجبة، أو محرمة، أو مستحبة، أو مكروهة، وإليك الأمثلة:
1- واجب القلب: كالإخلاص والمحبة، والتوكل.
ومحرمات القلب: كالعجب والرياء والكبر.
2- واجب اللسان: كالنطق بالشهادتين، ورد السلام، وتلاوة ما يلزم من القرآن.
والمستحب: كالذكر، ومطلق التلاوة. والمكروه: كالكلام بما لا فائدة فيه.
والحرام: كالغيبة والنميمة والكذب والبهتان والسب والفحش.
وعبودية الجوارح مقسمة على الحواس الخمس:
كوجوب الإنصات لخطبة الجمعة، وتلاوة القرآن عند قصد السماع... وتحريم سماع الكفر والبدعة والمعازف... واستحباب سماع العلم... وتحريم النظر بشهوة إلى الأجنبيات... واستحباب النظر في كتب العلم... وكراهية فضول النظر... وذوق الطعام واجب عند الاضطرار، وحرام إن كان مسكرًا، ومكروه إن كان مشتبهًا فيه. وكذلك الشم واللمس... إلخ.
قال تعالى: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا " [الإسراء: 36].
11- السعادة في العبادة:
والعبادة الحقة تُترجم إلى أعمال صالحة يؤديها القلب واللسان والجوارح، وهي تحقق للعبد السعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " [النحل: 97].
وهذه العبادة الصحيحة من شأنها أنها ترفع أسباب الشقاء التي تعاني منها الإنسانية اليوم، ومن أهمها:
اتخاذ الهوى والشيطان معبودين من دون الله بإتباع إشارته، وتنفيذ مطلوبه، والافتتان بمظاهر الحياة، وتقليد المجتمع في الصغيرة والكبيرة من فتنة الشهادات الدراسية، والمناصب الرفيعة، وتحصيل الأموال، والمساكن الفاخرة، والفرش الوثيرة، ونظر النساء إلى غيرهن في الذهب والفضة والضرورات والكماليات.
ولا بأس بكل ذلك إن صحبه الخلق والدين وجاء من حله، ولم يكن سببًا للتطاول على الآخرين، وكان في مقدور الإنسان، أما أن يستدين الناس ويتحملوا ما لا يطيقون، أو تمتد أيديهم إلى الحرام في سبيل المظاهر الخادعة، ومواكبة المجتمع، وتقليد الناس، فسبب ذلك هو الفراغ الديني.
لقد أصبح الناس يقاسون بما يركبون من سيارات ونحوها، وما يسكنون من قصور وغيرها، وما يخدمون من خدم وحشم، وما يلبسون من ثياب، وهكذا، فترتفع النظرة إليهم بارتفاع القيمة المادية، وتنخفض بانخفاضها، وينصرف الناس عن المقياس الحقيقي مقياس الدين والخلق والتقوى والعمل الصالح، وهو ميزان التفاضل عند رب العالمين، قال تعالى: " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " [الحجرات: 13] ولقد عرف السلف هذه الحقيقة، ولم تفتنهم مظاهر الحياة، فكانت لهم شخصيتهم المستقلة، فسادوا في الدنيا، وسعدوا في الآخرة.
ثانيًا: الاستعانة " وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "
والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، ففيها طلب المعونة من الله تعالى؛ لدفع العجز، وللمساعدة على ما يعجز المستعين عن أدائه، وفيها اعتراف بتقصير العبد حال وقوفه بين يدي الله تبارك وتعالى، وطلبه منه سبحانه الاستعانة والهداية.
فكأن العبد يقول: نحن ننشد عونك يا رب، ونطلب مساعدتك، ونتوجه إليك، ونسألك قضاء حاجاتنا وأداء متطلباتنا، وفي ذلك عهد بين العبد وربه ألا يستعين إلا به سبحانه، وفيه تبرؤ من الحول والطول والقوة، وفيه تفويض الأمر لله تعالى، كما قال تعالى: " فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ " [هود: 123] أي: استعن به واعتمد عليه سبحانه.
وقد جمعت هذه الآية بين العبادة والاستعانة، وهي الوسيلة للقيام بعبادته جل شأنه، فإياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها، وفي ذلك طلب العون من الله تعالى، فإن مما يدعو به المسلم عقب الصلاة كما جاء في حديث معاذ رضى الله عنه: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود والنسائي).
والاستعانة هي الوسيلة التي يتم بها الحصول على خيري الدنيا والآخرة، وأطلقت الاستعانة لتشمل كل استعانة مشروعة؛ كالاعتماد على الله تعالى، والتوكل عليه، والدعاء والرجاء، وطلب المدد، وقضاء الحاجات.
وطلب الاستعانة لا يقتصر على التوفيق في العبادة، بل يشملها ويشمل غيرها، وكل ذلك مختص بالله تعالى.
والاستعانة نوعان:
1- نوع خاص بالله تعالى: لا يُطلب إلا منه سبحانه وتعالى، ولا يُقصد غيره فيه، ويكون ذلك في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه؛ كالاستعاذة، والمدد، وجلب الخير، ودفع الضر، وإجابة الدعاء، والاستغاثة، وطلب النجاح والشفاء، وطلب الولد والرزق.
ومن استعان بولي أو نبي فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو اتخذه واسطة بينه وبين ربه؛ فقد أشرك بالله تعالى.
2- ونوع هو في مقدور الناس: كالاستعانة بشخص في حمل شيء لا يستطيع حمله، أو الاستعانة به في إنهاء معاملة أو مصلحة مشروعة، أو الاستعانة به في أن يشفع له شفاعة حسنة لدى مسئول للتوصل إلى حقه، أو لدفع الضرر عنه، كذلك كل ما يعجز عنه الإنسان في أمور الدنيا ويحتاج إلى مساعدة غيره فيه، ويكون ذلك في الأمور التي تدخل في قدرة الإنسان وتصرفه، فهي استعانة جائزة مشروعة.
الأخذ بالأسباب: وكلمة الاستعانة تُشعر بوجوب العمل، والأخذ بالأسباب؛ لأن الاستعانة طلب العون من الله تعالى على أداء عمل أو إتمامه، وذلك في كل ما للإنسان فيه كسب؛ كطلب الشفاء من الله تعالى مع بذل سبب العلاج وأخذ الدواء، وطلب الرزق مع بذل السبب، وطلب النصر على العدو مع مجاهدته وإعداد العدة، وطلب النجاح في الامتحان من الله تعالى مع الجد والاجتهاد في تحصيل الدروس، وهكذا.
وكل من ترك الأخذ بالأسباب يكون قد جانب الصواب، وكل من اعتمد على الله تعالى دون أن يبذل الأسباب فقد أخطأ الاعتقاد، فإن العبد لا يستغني عن العون الإلهي مهما أوتي من قوة وحصافة، ولابد له من العمل والتوكل، ولا ينفع التوكل بدون عمل، ولا ينفع عمل بدون توكل واستعانة.
وقد اشتملت هذه الآية " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " على توحيد الربوبية والاستعانة به سبحانه وتعالى، وهي أفضل الوسائل للإعانة على العبادة، والتعبد يكون باسم الله، واسم الرحمن، واسم الرب، والمسلم يعبد الله تعالى بألوهيته، ويستعين بربوبيته.
عن الحسن: أن الله تعالى أنزل مئة وأربعة كتب جمع معانيها في أربعة هن: التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، وجمع معانيها في القرآن، وجمع معاني القرآن في الفاتحة، وجمع معاني الفاتحة في: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " (كتاب الصلاة ابن القيم وأخرجه البيهقي عن الحسن في «شعب الإيمان»).
وإذا قرأ العبد " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " وعند التلفظ بـ " وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " تغمره السكينة والطمأنينة؛ لأنه قد توكل على الله، وألقى إليه مقاليد أموره في الدنيا والآخرة؛ لعينه سبحانه على الوصول إليها.
مختارات