التوحيد
التوحيد
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما) الفرقان 68
لا زلنا نعيش مع عباد الرحمن،الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وقد حدثنا الله عن حالهم في أنفسهم،وعن حالهم مع الناس، وعن حالهم مع الله،وعن خوفهم من عذاب الله ورجائهم في عفوه ورحمته، وهكذا ذكرهم الله بتلك الصفات الإيجابية، ولكن الدين أمر ونهي، فإذا كان حالهم مع أوامر الله تعالى وتوجيهات الدين، فما هو حالهم مع ما نهى الله تعالى عنه؟
هذا ما ذكرته هذه الآية الكريمة التي نقف عند الفقرة الأولى منها اليوم (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما) الفرقان 68
( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) فالموحدون طهرت قلوبهم وخلصت بالتوحيد لله، فلا يشركون بالله غيره ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، أما المشركون فلا يتورعون عن هتك الأعراض وسفح الشهوات.
فعباد الرحمن لا يعبدون إلا الله ولا يقدسون غير الله، فهم يفردونه وحده بالعبادة والاستعانة فهموا سر قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)
وتلك هي عقيدة التوحيد التي هي لب عقائد الإسلام، الإيمان بإله واحد فوق هذا الكون، له الخلق والأمر، وإليه المصير، هو رب كل شيء، ومدبر كل أمر، هو وحده الجدير أن يعبد ولا يجحد، وأن يشكر ولا يكفر، وأن يطاع ولا يعصى، ( ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء فاعبده وهو على كل شيء وكيل) الأنعام102
ومن روائع الإسلام أنه سن للأب المسلم أن يستقبل مولوده بالأذان الشرعي، يؤذن به في أذنه اليمنى، لتكون كلمة التوحيد أول ما يطرق سمعه من أصوات الناس.
فإذا عاش في الدنيا ما قدر له، ثم حضرته الوفاة، كان على أولياءه وأقاربه أن يلقنوه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
وبهذا يكون أول ما يستقبل به المسلم نور الحياة هو كلمة التوحيد، وآخر ما يودع به الحياة هو كلمة التوحيد، وما بين مهد الطفولة وفراش الموت ليس له مهمة غير إقامة التوحيد والدعوة إلى التوحيد.
الشرك في الجزيرة العربية قبل الإسلام:
لقد جاء الإسلام والشرك بالله ضارب أطنابه في كل أنحاء العالم، ولم يكن يعبد الله وحده إلا أفراد قلائل من الحنفاء في جزيرة العرب ممن يتعبدون على ما بقى سالماً من ملة إبراهيم، أو بقايا من أهل الكتاب، سلموا من تأثير التحريفات الوثنية التي أفسدت الأديان الكتابية.
وحسبنا أن نعلم أن أمة كالعرب في جاهليتها غرقت في الوثنية إلى أذقانها، حتى إن الكعبة التي بناها محطم الأصنام لعبادة الله وحده (إبراهيم الخليل) بات في جوفها وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، وحتى غدا في كل دار من دور مكة صنم يعبده أهلها.
بل روى الإمام البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الحجر الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة، فحلبنا عليه، ثم طفنا به) !
وأكثر من ذلك أنهم كانوا يتخذون إلهاً من (العجوة)، وكثيراً ما كان يصطحبه أحدهم في سفره، فإذا فني زاده وغلبه الجوع لم يجد بداً من أن يأكله !
وفي بلد كالهند بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس لميلاد المسيح، حتى قدر عدد الآلهة حينئذ ب330 مليوناً.
التوحيد هو حق الله على العباد
ومما يؤكد هذا المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن التوحيد هو حق الله على عباده الذي لا يجوز التفريط فيه، ولا الغفلة عنه..
روى الشيخان البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟. قال: (لا تبشرهم فيتكلوا ).التوحيد المأمور به:
إنه توحيد اعتقادي علمي، وتوحيد عملي سلوكي.
وقد جرى كثير من المصنفين قديماً وحديثاً، على تسمية النوع الأول من التوحيد (توحيد الربوبية)، وعلى تسمية النوع الثاني (توحيد الإلوهية).
فما معنى توحيد الربوبية؟ وما معنى توحيد الإلوهية؟
أولاً:توحيد الربوبية
معناه اعتقاد أنه تعالى رب السموات والأرض وخالق من فيهما وما فيهما، ومالك الأمر في هذا العالم كله لا شريك له في ملكه، ولا معقب عليه في حكمه، فهو وحده رب كل شئ، ورازق كل حي، ومدبر كل أمر، وهو وحده الخافض الرافع، المعطي المانع، الضار النافع، المعز المذل، وكل من سواه وما سواه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، إلا بإذن الله ومشيئته
. وهذا القسم لم يجحده إلا الماديون الملحدون الذين ينكرون وجود الله تعالى، كالدهريين قديماً والشيوعيين في عصرنا.
أما معظم المشركين كالعرب في الجاهلية فكانوا يعترفون بهذا النوع من التوحيد ولا ينكرونه، كما حكى عنهم القرآن:
(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) العنكبوت 61
فهذه أجوبة المشركين، تدل على أنهم يقرون بربوبية الله تعالى للكون وتدبيره لأمره، وكان مقتضى إيمانهم بربوبيته تعالى للكون أن يعبدوه وحده ولا يشركوا بعبادة ربهم أحداً، ولكنهم أنكروا القسم الآخر من التوحيد، وهو توحيد الإلوهية.
ثانياً:توحيد الإلوهية:
ومعنى توحيد الإلوهية، إفراد الله تعالى بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، فلا يعبد إلا الله وحده، ولا يشرك به شئ في الأرض أو السماء.
ولا يتحقق التوحيد ما لم ينضم توحيد الإلهية إلى توحيد الربوبية. فإن هذا وحده لا يكفي، فالعرب المشركون كانوا يقرون به، ومع هذا لم يدخلهم ذلك في الإسلام لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، واتخذوا مع الله آلهة أخرى، زعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، أو تشفع لهم عند الله.
ولكن ما معنى ( العبادة ) التي هي من حق الله وحده؟
معنى العبادة:
العبادة كلمة تتضمن معنيين امتزج أحدهما بالآخر، فصاروا شيئاً واحداً. وهما نهاية الخضوع مع نهاية الحب.
فالخضوع الكامل الممتزج بالحب الكامل هو معنى العبادة.
فأما حب بلا خضوع، أو خضوع بلا حب، فلا يحقق معنى العبادة.. وكذلك بعض الخضوع مع بعض الحب لا يحقق العبادة، بل لا بد من كل الخضوع مع كل الحب.
وعرفها ابن تيمية بأنها (اسم جامع لكلّ ما يُحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.)
صور العبادة وأنواعها:
والعبادة ليست مقصورة على صورة واحدة، كما يخيل لكثير من الناس، بل لها أنواع وصور عديدة منها:
1- الدعاء: أى الاتجاه إلى الله تعالى بطلب نفع أودفع ضر، أو رفع بلاء أو نصر على عدو، أو نحو ذلك.
فهذا الاتجاه بالسؤال المنبعث من القلب لله تعالى هو مخ العبادة وروحها كما في الحديث (الدعاء هو العبادة.) رواه الترمذي.
2- ومنها: إقامة الشعائر الدينية، مثل الصلاة والصيام والصدقة والحج والنذر والذبح وما شابه ذلك. فلا يجوز أن توجه هذه الشعائر إلا لله.
3- الانقياد والإذعان الديني لما شرع الله من أحكام، أحل بها الحلال وحرم الحرام، وحد الحدود، ونظم شئون الحياة، فلا يجوز لمن آمن بالله رباً أن يأخذ عن البشر النظم والأحكام والقيم والقوانين، يخضع لها ويحكمها في حياته بغير سلطان من الله فهذا ضرب من العبادة.
التوحيد رسالة الأمة الإسلامية إلى الأمم:
والتوحيد كما هو رسالة في الحياة، هو أيضاً رسالة الأمة المسلمة إلى العالم كله، وإلى الأمم جميعاً.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم دعوته إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض وأمرائها، بهذه الآية الكريمة: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا ًبعضاً أرباباً من دون الله،فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)آل عمران64.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان يعرفون هذه الرسالة وواجبهم نحوها، وحين سأل رستم قائد الفرس ربعي بن عامر في حرب القادسية: من أنتم؟ وما مهمتكم؟ أجابه بقوله: ( نحن قوم بعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )
التوحيد مصدر الأمان النفسي:
التوحيد يربي المسلم على ألا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله، المشرك يخاف من كل شيء، ويخاف على كل شيء، والمؤمن الذي وحد الله لا يخاف من شيء، لأنه يحيا في الدنيا مطمئنا على رزقه، فلا يخاف من الغد، حتى الموت لا يخاف منه لأنه يعلم أن بعد الموت حياة أخرى يلقى فيها ربه.
فالإسلام بنى حقيقة التوحيد على الصلة بالله تبارك وتعالى فيما ينوب ويروع واليأس من الناس فيما لا يملكون فيه على الله بتا، ولا يقدمون نفعا ولا ضرا: (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور، أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور) الملك21،20.
ومن هنا كان التوحيد مصدر الأمان النفسي قال تعالى حكاية عن إبراهيم لقومه (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) الأنعام
والظلم هنا هو الشرك، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود، أن النبي قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية وقالوا: يا رسول أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟
فقال: « ليس الذي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان:13
قال ابن كثير في الآية: أي: هؤلاء الذين اخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
وقال عن المشركين
(سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانه ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) آل عمران 151
التوحيد مصدر عزة المسلم:
فالموحد يؤمن بإله قادر قوي عزيز لا يغفل ولا يقهر ولا يذل
قال تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) إن العزة كلها لله، فمن كان يريد العزة فليذهب إلى المصدر الأول،ليطلبها عند الله، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم، وهم مثله محاويج ضعاف!
فالموحد لا يحني رأسه لمخلوق متجبر، ولا لقوة من قوى الأرض جيمعاً... فالعزة لله جميعاً.
قال بعض السلف (إن الناس يطلبون العزة في أبواب الملوك ولا يجدونها إلا في طاعة الله )
التذلل والانكسارلله عزة:
فتذلل العباد لربهم هي ذلة لمن له الخلق والأمر والغنى والملك، وكل العباد رهن مشيئته وطوع أمره، فالعزة الحقيقية ألاَّ تكون مغلوباً ولا مقهوراً لعبد مثلك، فمهما بلغ الإنسانُ في الدنيا من القوة والجبروت لا بُدَّ أنْ يُغلب، ولا بُدَّ أنْ يقهره الموت، فإنْ كنتَ مغرماً بعزة لا تزول، فهي في جنب الله.
قال بعض السلف (من أراد عزا بلا سلطان وكثرة بلا عشيرة وغنى بلا مال فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة )
ولنتأمل هذا الذي يعبد فأرا ويذل نفسه له:
وذاك الذي يعبد بقرة أو ثعبانا أو حجرا بل وصل الأمر في الهند إلى عبادة فرج المرأة، بل وأنواع شتى من الحشرات
الشرك أذل الإنسان وانحط به وصدق الله العظيم إذ يقول (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) الحج 31
فجاء الإسلام ليحررنا من العبودية لغير الله تبارك وتعالى، فالحمد لله على نعمة التوحيد لله، نسأل الله أن يديمها علينا وأن يميتنا عليها وأن يحشرنا في زمرة أهلها...آمين
مختارات