" العبادة والاستعانة ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) "
" العبادة والاستعانة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) "
أولًا: العبادة " إِيَّاكَ نَعْبُدُ "
1- نقل الكلام من أسلوب الغيبة في " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " إلى أسلوب الخطاب في " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " من أساليب البلاغة؛ لما فيه من الالتفات، وتنوع العبارة، وتفنن القول، وفي هذا تنشيط للسامع، وإيقاظ له، وتحريك همته للاستماع.
وهذا الأسلوب مناسب بعد الثناء على الله تعالى، كأن العبد بعد أن أثنى على ربه أقبل عليه، فاقترب منه سبحانه، وحضر بين يديه، وخاطبه بقوله: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ ".
2- وقدم المفعول وهو " إِيَّاكَ " على الفعل وهو " نَعْبُدُ " لإفادة التعظيم والاهتمام، وقصر العبادة على الله سبحانه وتعالى، واختصاصها به جل شأنه دون سواه.
3- والتعبير بالنون في " نَعْبُدُ " بدل الهمزة في «أعبد» للإشعار بأن المسلم يناجي ربه باسم الجماعة التي انتظم بين يدي ربه في صفوفها، فهو لا يعبد الله تعالى بمفرده، ولا يناجيه ويدعوه منفردًا، وإنما يعبد ربه ويناجيه ويدعوه مع إخوانه المسلمين أن يحقق لهم خيري الدنيا والآخرة، وهو وإن صلى منفردًا إلا أنه مع إخوانه المسلمين بمشاعره وأحاسيسه وعقله وقلبه، مما يُفهم منه قيمة الجماعة وأهميتها في الإسلام، والعمل على تقويتها، ودعم الروابط والأخوة الإسلامية، والوحدة الإيمانية، والتعاون على البر والتقوى، وأنهم جميعًا كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص.
ومن هنا فضلت صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع أو خمس وعشرين درجة، فضلًا عما يتبع ذلك من أنه وهو في طريقه إلى المسجد كلما رفع قدمًا ووضع قدمًا رُفعت له درجة، وُحطت عنه خطيئة، ويتجلى هذا المظهر في صلاة الجمعة والعيدين ويبلغ قمته في وقفة عرفات.
4- تعريف العبادة: والعبادة في اللغة لها ثلاث معانٍ:
(أ) العبادة (ب) الطاعة والتسليم (ج) الخضوع والعبودية
وكلها مرادة من العبد، فهو يعبد الله تعالى ويطيعه ويخضع له، ويسلم وجهه إليه.
والعبادة شرعًا: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
5- العبد: والعبد هو الإنسان، حرًا كان أم رقيقًا، ذكرًا كان أم أنثى؛ لأن الجميع مربوب لله تعالى.
6- العبادة والعبودية: والعبادة أبلغ من العبودية؛ لأن العبادة غاية التذلل والخضوع والحب للمعبود، والعبودية: تمام الانقياد والطاعة لله تعالى.
فالعبادة تعني: غاية الذل والخضوع لله تعالى مع المحبة والتفاني والإخلاص للمعبود سبحانه، وهي الغاية والهدف الذي خُلق الإنسان من أجله، قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذاريات: 56] وهي نوع من شكر الخالق سبحانه على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى.
قال تعالى: " بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ " [الزمر: 66] فقرن العبادة بالشكر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تتفطر قدماه، ولما سئل عن السبب، مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (البخاري ومسلم).
وقُدمت العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص، ولأن العبد يحتاج في جميع عبادته إلى الاستعانة بالله، فإن لم يُعنه الله لم يحصل له ما يريد من فعل الأوامر وترك النواهي.
والعبادة مطلوبة من العبد حتى يوافيه الأجل " وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ " [الحجر: 99] واليقين هو الموت، والعبادة أعلى مراتب الدين، وأرقى درجات الطاعة حين تكون على أكمل وجه وأحسن صورة، جاء في الحديث عن معنى الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (البخاري ومسلم) ولابد فيها من الإخلاص الخالي من الرياء ومن الشرك، وأن تكون موافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم كي تكون سبيلًا إلى النجاة.
والعبودية هي أشرف ما ينتسب به العبد إلى ربه، وأعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى.
ولأمر ما: كان وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية، وشرف الإضافة والانتساب إليه سبحانه، وقد تحقق هذا الوصف للنبي صلى الله عليه وسلم بعد شق صدره وصفاء روحه، وإعداده للالتقاء بالملائكة الكرام، وإخوانه من الرسل والأنبياء عليهم السلام، وفرضية الصلاة عليه وعلى أمته، وكان ذلك في ليلة الإسراء: " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " [الإسراء: 1] وحين عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلى: " فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى " [النجم: 10].
وجاء الوصف بالعبودية للنبي صلى الله عليه وسلم في تشريفه بالرسالة، وهي أشرف الفضائل وأعلى المنازل " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " [الفرقان: 1].
" وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا " [البقرة: 23].
وهي أشرف وصف للأنبياء والمرسلين: " وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " [ص: 45].
وأشرف وصف للأبرار من عباد الله: " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا " [الفرقان: 63].
7- شمول العبادة: وأطلقت العبادة لتشمل كل عبادة؛ كالصلاة والزكاة والصيام والحج والنذر والدعاء والاستعانة والاستغاثة والمحبة...إلخ.
والتعبد المطلق هو شغل كل وقت بما يناسبه من طاعة.
فإن رأى المجاهدين فهو معهم، وإن رأى الذاكرين فهو معهم، وإن رأى المتصدقين فهو معهم، وإن رأى المحسنين فهو معهم، وإن رأى الضيف قام بواجبه، وإن رأى الملهوف أغاثه، وإن كان مع الزوجة والأولاد أحسن معاملتهم، وإن رأى الجاهل أقبل على تعليمه، وإن سمع الأذان أظهر الاستجابة والتلبية، وعند تلاوة القرآن يُقبل بتدبر وخشوع، وإن وجد متخاصمين أسرع إلى الصلح بينهما، وإن قصده صاحب حاجة أو شفاعة حسنة لدى مسئول انبرى لقضائها، فهو دائمًا مسارع في سبيل الله، خادم لعباد الله.
والنية تفرق العادة من العبادة في الأكل والشرب والنوم والعمل وإتيان الرجل أهله، وغير ذلك من سائر الأقوال والأفعال، فإذا أكلت لإشباع بطنك فهو عادة، وإذا أكلت بنية التقوى على طاعة الله وعلى أداء العمل المشروع فهو عبادة، وهكذا سائر الأمور.
8- نوعا العبادة:
(أ) عبودية عامة لأهل السموات والأرض جميعًا: وهي عبودية لا خيار للعبد في تركها، كما قال تعالى: " إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا " [مريم: 93].
فجميع الكائنات تسبح بحمد الله: " تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " [الإسراء: 44].
وجميع الكائنات تسجد وتصلي لله تعالى: " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ " [الحج: 18].
وهذه العبادة تقع من جميع الخلائق دون تسويف ولا عصيان ولا مخالفة، عدا الإنس والجن، فبعضهم يؤمن وبعضهم يكفر.
وهذه العبادة هي مقتضى أداء الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وعدم حمل الكائنات للأمانة، معناه أداؤها فورًا دون تأخير ولا تأجيل، كما هو شأن الإنسان الذي قبل ذلك.
(ب) وعبودية خاصة بالإنسان:
وهي عبادة المطيعين لربهم، المحبين له عن طواعية واختيار، وهو مقتضى حمل الأمانة والقيام بها، ولأن من الناس من يعصي الله ويخالف الغرض الذي خلق من أجله، فقد استثنى الله سبحانه من جميع الكائنات (الإنسان) وفي حكمه (الجن) فقال سبحانه: " وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ " أي: لا يسجد ولا يطيع ثم قال: " وَكَثِيرٌ " أي من الناس " حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ "، أما سائر الكائنات فإنها تطيع بلا استثناء " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " [النور: 41].
ومن قام بواجب الطاعة فهو المحب المتبع لله والرسول، ومن زعم أنه وصل إلى مقام يسقط عنه فيه العبادة فهو كافر زنديق؛ كمن يدعي أن الصلاة تسقط عنه لأمر ما؛ كادعاء نسب، أو منزلة عالية، أو أنه يصلي في الحرم وهو في بلده، يلبس على الناس دينهم، أو أنه ليس بحاجة إلى التكاليف الشرعية؛ لأنه منتهٍ عن الفحشاء والمنكر، أو لأنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من سلالة فلان أو علان، أو أن الله تعالى أسقط صلاة الجماعة عن ذرية فاطمة (رضي الله عنها)، أو غير ذلك.
مختارات