" طلب الهداية (اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) "
" طلب الهداية (اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) "
(أ) الهداية في الآية بمعنى: طلب التوفيق والإرشاد إلى الحق، والدلالة عليه، والثبات على الصراط إلى الممات.
والمعنى: ألهمنا يا ربنا ووفقنا وأرشدنا ودلنا على طريق الخير والهدى والفلاح، وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى وإلى جنته بمعرفة الحق والعمل به ولزوم دين الإسلام وترك ما سواه.
(ب) المناسبة: ولما كان الجانب الديني في الاستعانة المذكورة في الآية قبلها هو الأهم، كان طلب المسلم للهداية أهم ما ينبغي على العبد أن يُلح في دعائه لله تعالى بشأنه؛ لأن طلب الهداية من الله تعالى، والاستعانة به سبحانه على تحقيقها، أهم ما يشغل المسلم، وأول أمر يعنيه هو الحاجة إلى الهداية، والعبد وإن كان من المهتدين إلا أنه محتاج ليل نهار إلى سؤال الهداية من ربه، وتثبيته عليها، وازدياده منها، واستمراره عليها، وهو مفتقر في كل ساعة إلى إجابة الدعاء.
ومن هنا فإن المسلم يردد طلب الهداية من الله تعالى، وهو يناجيه في صلاته كلها، فريضة أو نافلة، آناء الليل وأطراف النهار وما بين ذلك، عشرات المرات في اليوم الواحد.
قال ابن القيم: ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم، أجل المطالب لنيل أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يدي الدعاء حمده سبحانه، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكرهم عبوديته وتوحيده، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم:
1- توسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته.
2- توسل إليه بعبوديته والاستعانة به سبحانه.
وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء.
وقد اشتملت سورة الفاتحة في نصفها الأول على هذين النوعين من التوسل، ثم كان الدعاء بعدهما في النصف الثاني، بطلب الهداية من الله تعالى، وسلوك طريق الذين أنعم الله عليهم بالاستقامة والسعادة في الدارين.
وقد جمعت سورة الفاتحة بين التوسل بالحمد والثناء، والتوسل بالتوحيد والعبودية، ثم جاء سؤال أهم المطالب، وهو طلب الهداية بعد هاتين الوسيلتين، فالداعي حينئذ حقيق بالإجابة بمحض فضل الله تعالى عليه.
فنصف سورة الفاتحة الأول يشتمل على نوعي التوسل المشروع؛ وهما: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه سبحانه بالعبادة والعمل الصالح.
وقد جاء النوع الأول في حمد الله تعالى والثناء عليه وتمجيده.
وجاء النوع الثاني في توجه العبد بعبادته إلى الله وحده واستعانته به سبحانه.
وبعد ذلك يكون العبد حريًا بإجابة الدعاء، وقد طلب من ربه أن يهديه إلى أعدل الطرق وأقومها، ويبعده عن طريق أهل الغضب والضلال، بعد أن قدم بين يدي ربه دواعي الإجابة، فيكون جديرًا بالهداية.
1- فالتوسل المشروع يكون بأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العليا، كما قال تعالى: " وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا " [الأعراف: 180] أي: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى.
كأن يقول العبد: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي، وكما في حديث الرجل الذي سأل ربه الجنة في تشهده بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
وهو حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول في تشهده: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» (رواه أبو داود والنسائي وأحمد في «المسند» قال محققوه: حديث صحيح وإسناد قوي، والبخاري في «الأدب المفرد» وابن حبان وغيرهم بإسناد صحيح).
فهذا توسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته.
2- ويكون التوسل المشروع أيضًا بالعبادة والعمل الصالح الذي قدمه العبد بنفسه، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم الغار وانطبقت عليهم الصخرة، فدعا كل منهم ربه بعمل صالح عمله، حيث دعا الأول ربه ببره لوالده، ودعا الثاني بحفظ الأمانة وتنميتها لصاحبها، ودعا الثالث بترك شهوته خوفًا من الله تعالى، بعد أن تمكن من المرأة، وقعد بين شعبها الأربع، فرفع الله عنهم الصخرة، والحديث في الصحيحين.
ومن ذلك قوله تعالى: " الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " [آل عمران: 16] وقوله تعالى: " رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ " [آل عمران: 193].
ومن ذلك حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فقال: «لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب» (رواه أحمد بإسناد صحيح ورجال ثقات رجال الشيخين، والترمذي والنسائي في «الكبرى» وابن حبان وأبو داود وغيرهم).
فهذا توسل إلى الله تعالى بعمل صالح هو الشهادة والتوحيد.
(ج) والهداية تتعدى بنفسها وبغيرها:
1- الهداية قد تتعدى بنفسها، كما قال تعالى: " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ " [البلد: 10] أي: طريق الخير والشر.
2- وقد تتعدى الهداية باللام، كما قال تعالى على لسان أهل الجنة: " الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ " [الأعراف: 43].
أي: الحمد لله الذي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلًا.
3- وقد تتعدى الهداية بإلى، كما قال تعالى: " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " [الشورى: 52، 53].
وقد فرق بعضهم بين الفعل المتعدي بنفسه؛ فقالوا: معناه الدلالة على الخير، وبين المتعدي بغيره؛ فقالوا: معناه إيصال الخير إلى العبد.
(د) طلب الزيادة من الهداية: والمهتدي يطلب من الله تعالى زيادة الهدى، كما قال سبحانه: " وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ " [محمد: 17].
وكما قال جل شأنه: " إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى " [الكهف: 13].
(هـ) أنواع الهداية؛ الهداية نوعان:
النوع الأول: خلق الهداية وإيجادها في نفس العبد.
وهذه الهداية خاصة بالله تعالى لا يملكها غيره، وعلى هذا المعنى يُحمل مثل:
1- قول الله تعالى: " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " [القصص: 56].
2- وقوله سبحانه: " إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ " [النحل: 37].
3- وقوله جل شأنه: " وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ " [يونس: 99].
والله تعالى لا يهدي من سبق في عمله أنه لا يهتدي من أهل الضلال والزيغ والظلم، كما قال تعالى: " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " [البقرة: 26].
وكما قال سبحانه: " وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " [الصف: 7] وقال أيضًا: " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ " [الصف: 5] ففسقهم وظلمهم وزيغهم وكرفهم هو السبب.
النوع الثاني: الهداية بمعنى الدعوة إلى الله تعالى، والدلالة على الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا النوع من الهداية، هو وظيفة الرسل والأنبياء والدعاة والمصلحين، وهي المرادة في قوله تعالى: " اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ".
وفي قوله تعالى: " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " [الشورى: 52، 53].
(و) ومن الهدايات التي يطلبها العبد من ربه، أن يطلب منه:
1- الهداية بالتوبة عن المعاصي مما ألم به من ذنوب وآثام اقترفها وهو على غير هدى.
2- ويطلب منه أن يهديه؛ بمعنى يوفقه إلى الثبات والاستمرار على الاستقامة إن كان مهتديًا في حاضره.
3- ويطلب من الله تعالى أن يهديه في المستقبل كما حصل له من الهداية في الماضي.
4- ويطلب أن يزيده الله هداية فوق هدايته، وتقوى على تقواه.
5- ويطلب منه أن يوفقه إلى تمام الهداية في الأمور التي هُدي فيها من وجه دون وجه.
فالمسلم يطلب من ربه أن يهديه في جميع أنواع هذه الهدايات إلى أفضل الأحوال.
أ- وأهل هذه الهداية المختصون بنعمته سبحانه هم من عرفوا الحق وعملوا به.
ب- دون من عرفوا الحق ولم يعملوا به، ممن غضب الله عليهم؛ بسبب النكوص بعد الاهتداء.
ج- ودون من فقدوا طريق الهداية، فعبدوا الله بغير علم، فضلوا وأضلوا، ولم يوفقوا إلى الوصول إليه.
مختارات