الأصل العشرون : " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون ففروا إلى الله "
الأصل العشرون: " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون ففروا إلى الله "
قال – تعالى -: ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون * ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين "
(الذاريات: 49 – 50). قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: أى: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض وليل ونهار وشمس وقمر وبر وبحر وضياء وظلام وإيمان وكفر وموت وشقاء وسعادة وجنة ونار حتى الحيوانات والنباتات، ولهذا قال – تعالى -: " لعلكم تذكرون " أى: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له " ففروا إلى الله " أى: الجأوا إليه واعتمدوا فى أموركم عليه " إنى لكم منه نذير مبين " اهـ.
وقال صاحب الظلال – رحمه الله تعالى -: " وفى ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة، الهائلة المدى: فى أجواز السماء، وفى آماد الارض، وفى أعماق الخلائق، يهتف بالبشر ليفروا إلى خالق السماء والارض والخلائق، متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها، موحدين الله الذى خلق هذا الكون وحده بلا شريك.
" ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إنى لكم منه نذير مبين " (الذريات: 50 – 51).. والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا.
وهو يوحى بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق، التى تشد النفس البشرية إلى هذه الارض، وتثقلها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها فى عقال. وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثم يجىء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود !، الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك. وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: " إنى لكم منه نذير مبين ".. وتكرار هذا التنبيه فى آيتين متجاورتين، زيادة فى التنبيه والتحذير ! ".
إخوتاه، ففروا إلى الله.. اقتربوا من طريق الله.. تعالوا خطوة واحدة إلى الله.. ضعوا أرجلكم على أول الطريق.. أعينونا على أنفسكم بالوقوف على رأس الطريق والله يأخذ بأيديكم.
أروا الله من أنفسكم خيرا، فلقد كتب الله – جل جلاله – سنة من سننه فى خلقه: أن من تقرب إليه تقرب – سبحانه – إليه ومن ابتعد عنه ابتعد – سبحانه – عنه.. " نسوا الله فنسيهم " (التوبة: 67)
" فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (الصف: 5).. فمن تاب تاب الله عليه وأحبه، ومن بذل جهده واستفرغ وسعه فى طاعة الله، أعانه الله وسدده.. هذه قاعدة.. سنة مسلّمة.. فلا تنم عن الطاعات ثم تقول: لو كان الله يحبنى لهدانى.. لا.. بل تعال وهو يهديك.
وقد سمى ابن القيم – رحمه الله – هذا الأصل لقاحا.. مثل حبوب اللقاح.. فقال – عليه رحمة الله –
" فى الفوائد ":
* الطلب لقاح الايمان، فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العمل الصالح.
* وحسن الظن بالله لقاح الافتقار واضطرار إليه، فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء.
* والخشية لقاح المحبة، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهى.
* والصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورثا الإمامة فى الدين، قال تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " (السجدة: 24).
* وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الاخلاص، فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به.
* والعمل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة، وإن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئا.
* والحلم لقاح العلم، فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة، وحصا الانتفاع بعلم العالم، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع.
* والعزيمة لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة، وبلغت به همته من العلياء كل مكان. فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة، وإما من عدم العزيمة.
* وحسن القصد لقاح لصحة الذهن، فإذا فقدا فقد الخير كله، وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات.
* وصحة الرأى لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر، وإن فقدا فالخذلان والخيبة، وإن وجد الرأى بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشجاعة بلا رأى فالتهور والعطب.
* والصبر لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير فى اجتماعهما. قال الحسن: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك.
* والنصيحة لقاح العقل، فكلما قويت النصيحة قوى العقل واستنار.
* والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتجا الزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة.
* والتقوى لقاح التوكل، فإذا اجتمعا استقام القلب.
* ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل، فإذا اجتمعا فالخير كله فى اجتماعهما والشر فى فرقتهما.
* ولقاح الهمة العالية النية الصحيحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد " اهـ.
فالقضية إذا تحتاج إلى تلقيح.. أقصد قضية السير إلى الله والوصول إليه.. نعم: الوصول يحتاج إلى لقاحات.. وتعالوا الآن – إخوتى فى الله – لنشرع فى شرح أهم هذه اللقاحات:
الأول: لقاح الاستعداد للقاء الله قصر الأمل:
قال ابن القيم: " ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الامل، فإذا اجتمعا فالخير كله فى اجتماعهما والشر فى فرقتهما ".
وأسألك: لو خيرت، متى تحب أن تموت؟.. سؤال ينبغى أن يفرض نفسه عليك.. متى تحب أن تموت؟.. قال أحدهم: الآن، فقلت له: أمتأهب؟!.. أخاف عليك، لأن الله يقول: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " (الزمر: 47).. وقال آخر: أخاف أن أقابله فأجد أمورا لم أكن أتوقعها.. أشياء لم أضعها فى حسبانى.. لم أكن أنتظرها.. هناك قضايا ومشاكل تنتظرنى سيحاسبنى الله عليها لا أعرفها.. ولذلك فأنا خائف.
معاذ بن جبل لما جاءه الموت قال: " مرحبا بالموت مرحبا زائر مغب وحبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم ".. فمعاذ إذا متأهب ومستعد.
حذيفة بن اليمان لما جاءه الموت قال: " يا موت غط غطك، يا موت شد شدك أبى قلبى إلا حبك "..
يحب الموت لأنه متجهز ومستعد، فهل أنت متجهز؟!!.. هل أنت مستعد لمقابلة الله الآن؟!..
" وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " (الزمر: 47).. " وبدا لهم سيئات ما كسبوا " (الزمر: 48).. وجدوا المكسب سيئات !
فلقاح أخذ الاهبة أن تكون سائرا فى الطريق إلى الله بحذر وتيقظ، فتخشى أن يأتيك الموت بغتة.. فعش يومك الذى أنت فيه معتقدا وجازما أنه آخر يوم لك على الدنيا.. عش الدنيا كما عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عش كما عاش ومت كما مات.. قال النبى صلى الله عليه وسلم: " ما لى وللدنيا، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها " [صححه الألبانى] ولذلك " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ".. هذا شعاره صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الامانى بحر المفاليس.. نعم: إن الذى يبيت ظانا أنه سيقوم غدا.. طويل الأمل وغير مستعد للقاء الله.. ولذلك إذا قصر أملك فى الدنيا فقد لقحت استعدادك للموت. فيحصل الصدق وتسير إلى الله بذلك.. بهذا تكون مستعدا.
الثانى: لقاح الهمة العالية النية الصحيحة:
اللهم ارزقنا علو الهمة.. أحد إخواننا كان يحفظ القرآن، ثم بدأ فى الصيف فى دورة علمية فالتزم فيها، وفجأة ترك الدورة قال: لقد وجدت أن الاهتمام بالدورة قد شغلنى عن القرآن.. ولماذا يا بنى لا يكون الاثنان معا؟! أين الهمة العالية؟! أنت فى الكلية تدرس ست مواد أو ثمانية فى الفصل الواحد وتذاكرها جميعا بل وتحصل على امتياز لماذا لاتكون همتنا عالية أيضا فى طلب علم الكتاب والسنة وفى العبادة والدعوة إلى الله؟!!
ثم إن الهمة العالية وحدها لا تكفى، بل كثيرا ما تجنى على أصحابها فتجرهم إلى الوراء.. فالذى لديه همة عالية بدون نية صالحة تجده مبتلى بالعجب والغرور والرضا عن النفس، والكبر والازدراء للآخرين واحتقارهم.. إذا فلقاح الهمة وزوجها: النية الصالحة.. اللهم ارزقنا حسن النية.
والهمة نعمة، واستقلالك لنعم الله عليك يسقطك من عين الله.. لذلك إذا رزقك الله همة عالية فلقحها بنية صالحة، لتحفظ النعمة وتستقيم على الطريق.
يقول ابن القيم: " ولقاح الهمة العالية النية الصالحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد ".. أحسن نيتك فى همتك تكن الهمة صالحة، فتصل إلى الجنة العالية.
الثالث: التقوى لقاح التوكل:
قال ابن القيم " والتقوى لقاح التوكل، فإذا اجتمعا استقام القلب "
التقوى: ترك ما تهوى لما تخشى.. فالذى يمشى فى الشارع فلا ينظر يمنة أو يسرة، بل آخر حدود عينه خطوة أو خطوتان.. هذه تقوى، لأنه سلك طريقا كلها أشواك، فإذا نظر فى أى اتجاه وجد بلوى ومصيبة، ولذلك فهو دائما يمشى على الشوك بالتقوى.. فإذا وجد اثنين يتكلمان فلا يحاول أن يعرف فيما يتكلمان.. فهذع تقوى.
قيل لأحدهم: هل سلكت طريقا ذا شوك؟، قال: نعم، قيل: ماذا صنعت؟، قال: شمرت واجتهدت، قيل له: فتلك التقوى: التشمير والاجتهاد.. أن تعيش هذه الحياة ماشيا على الشوك، فتكون شديد الحذر. ولقاح هذه التقوى وزوجها التوكل.. أن تتوكل على الله وأنت تسير على الشوك، قال الله:
" ومن يتوكل على الله فهو حسبه " (الطلاق: 3).
ويتحدث ابن القيم عن حقيقة التوكل فى إحدى درجاته العالية فيقول:
" اعتماد القلب على الله، واستناده إليه، وسكونه إليه. بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الاسباب، ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه، ويلبسه السكون إلى مسببها.
وعلامة هذا: أنه لا يبالى بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ولا يخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره، لأن اعتماده على الله، وسكونه إليه، واستناده إليه، قد حصنه من خوفها ورجائها، فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به، فرأى حصنا مفتوحا، فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن، فهو يشاهد عدوه خارج الحصن، فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه فى هذه الحال لا معنى له.
وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع فى اعتماده، وسكونه، وطمأنينته بثدى أمه لا يعرف غيره، وليس فى قلبه التفات إلى غيره، كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل، لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه، كذلك المتوكل لا يأوى إلا إلى ربه سبحانه ".
إذا فلقاح التقوى التوكل، فلابد للمتقى من صدق التوكل على الله وإلا فهى حذر مجرد دون نية صالحة، فيقع فى المحذور وهو أتقى ما يكون، فتجد هذا المغبون الذى فقد التوكل مع التقوى رغم تحريه وشدة اتقائه يقع فى كبائر يعافها الفساق.. ألم تر إلى مصل قوام صوام يأكل أموال الناس بالباطل !!.. وأمثال ذلك كثير لاعتماده على التقوى وعدم توكله على الله، فلابد منهما معا. فبهما معا يكفيك الله ما أهمك من عقبات الطريق، فيوصلك ويبلغك إليه.
الرابع: التذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر:
قال ابن القيم: " والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتجا ازهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة ". فالتفكر فى مخلوقات الله مع الذكر زوجان لا يفترقان.. تأمل وقل: سبحان الله !!.. فإذا ذكرت الله تفكرت، وإذا تفكرت ذكرت.. نعم: الذكر يصفى القلب، فيجعله لا يمر على شىء إلا تعقله وتأمل فيه.. وكذلك التفكر يقوى القلب فيجعله هائما دوما بذكر الله.. فاحرص – أخى – على هذين اللقاحين فى طريق السير إلى الله يزهداك فى الدنيا ويرغباك فى الآخرة ويساعداك كثيرا فى الوصول إلى الله – تعالى.
الخامس: الصبر لقاح البصيرة:
قال ابن القيم: " الصبر لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير فى اجتماعهما. قال الحسن: إن شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا بصيرا فذاك ".. فذاك الرجل.. اللهم اجعلنا من رجالك.
صبر مع بصيرة.. أن ترى الحق فتعرفه، وترى الباطل فتعرفه.. أن تعرف الحق من الباطل وتصبر عليهما حتى تصل إلى الله – عز وجل.
السادس: العزيمة لقاح البصيرة:
يقول ابن القيم: " والعزيمة لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة، وبلغت به همته العلياء كل مكان. فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة ".
البصيرة: أن يرى قلبك الحق فيعرفه، فإذا رأى الحق عزم عليه فعاش عليه، ثم تحدث لك عزيمة ثانية على ترك الباطل فتبتعد عنه.
السابع: حسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه:
يقول ابن القيم: " وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه، فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء "
حسن الظن.. وتأمل هذا الحديث: " إن رجلا بعث فحوسب فثقلت موازين سيئاته، فقال الله: خذوه إلى النار، فصار يلتفت، فقال الله: ردوه، فقال الله: عبدى هل وجدت سيئة فى صحيفتك لم تعملها قال: لا يا رب قال: فما بالك تلتفت، قال: ما هذا ظنى فيك يا رب، فقال الله: خذوه إلى الجنة ".. اللهم ارزقنا الجنة.. لم يكن ظنى بك يا رب أنك ستدخلنى النار، بل كان ظنى أنك سترحمنى وتدخلنى الجنة.. كان هذا ظنى فيك يا رب.
قال الله – عز وجل – فى الحديث القدسى: " أنا عند ظن عبدى بى فليظن عبدى ما شاء " [صححه الألبانى].. فما ظنك بالله، العذاب أم الجنة؟.. اللهم استرنا يا رب.. وإذا كنت تظن به خيرا فهل عملت خيرا؟!.. وهل تصلح وهل تستحق لأن يدخلك الجنة؟!.. اصدق مع الله يرحمك وينجك.
حاول أن تكون مستحقا لأن يحبك الله، فاضبط نفسك على طاعته.. فحسن الظن مع سوء العمل لا ينفع صاحبه، فضلا عن أنه سوء أدب مع الله، قال الحسن: " إن قوما غرتهم الأمانى قالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ".
فكيف تحسن ظنك بالله وأنت تحاربه، وتعاديه بالمعاصى؟! كيف وأنت موله ظهرك؟! كيف وأنت لا تذكره؟! كيف وأنت لا تقرأ كلامه ولا تنفذ أوامره وأحكامه؟! وكيف وأنت لا تطيعه؟! كيف تحسن الظن بالله وأنت تفعل كل ما نهاك عنه؟! إن الأمر – إخوتاه – ليس لعبا، قال – تعالى -: " وما هو بالهزل " (الطارق: 14).
فأحسن الظن بحق، فاعمل.. أحسن الظن، فحسن الظن لقاح الافتقار والاضطرار. قال الله: " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه " (النمل: 62)..
يا رب، ليس لى إلا أنت.. افتقار واضطرار.. يا رب، لو وكلتنى إلى نفسى فسأضل، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين أبدا ولا أقل من ذلك.. خذ بيدى يا رب.. لا تسلط علىّ أعدائك فأنا ضعيف..
لا تسلمنى للعصاة والمذنبين فأنا مفتون وضعيف.. يا رب !
سيدنا يوسف افتقر إلى ربه فقال: " وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن " (يوسف: 33).. فقل: يا رب.. قل: " إنى مغلوب فانتصر " (القمر: 10).. افتقر إلى الله فى كل شىء.. يا رب، لا أعرف أصلى فعلمنى..
يا رب، القرآن ثقيل علىّ فسهله لى.. يا رب، لا أقوم الليل ولا أصلى الفجر فبأى وجه أقابلك، فخذ بيدى.. يا رب، المعاصى تملأ الارض، وكلما مشيت وقعت، فخذ بيدى.. يا رب.. يا رب.. هذا هو حال المؤمن، كمثل رجل فى البحر على خشبة يقول: يا رب.. يا رب، فاللهم سلمنا وارض عنا.. اضطرار وافتفار مع حسن ظن أنه لن يخيب رجاءك فيه، فيأخذ بذلك يدك ويبلغك المطلوب.
الثامن: الخشية لقاح المحبة:
قال ابن القيم: " والخشية لقاح المحبة، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الاوامر واجتناب المناهى ".
قال سهل: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطوة وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله – تعالى -، إذ قال: " وقلوبهم وجلة " (المؤمنون: 60).
لمّا احتضر سفيان الثورى جعل يبكى، فقيل له: يا أبا عبدالله، عليك بالرجاء، فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أو على ذنوبى أبكى؟!، لو علمت أنى أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا.
وقال ثابت البنانى: ما شرب داود عليه السلام شرابا بعد المغفرة إلا ونصفه ممزوج بدموع عينيه.
وهذا الصحابى الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: " لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلىّ من أن أتصدق بألف دينار ".
وقالت ابنة الربيع بن خثيم: " كنت أقول لأبى: يا أبتاه، ألا تنام؟! فيقول: يا بنية، كيف ينام من يخاف البيات؟!
وقال الحسن – رحمه الله -: يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيامة بين يدى الله – تعالى – مشهده أن يطول حزنه.
" قال يوسف بن أسباط: كان سفيان الثورى إذا أخذ فى ذكر الآخرة يبول الدم ".
وعن زيد بن أبى الزرقاء قال: حمل ماء سفيان إلى طبيب فى علته فلما نظر قال: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه.
إخوتاه، طوبى لقلوب ملأتها محبة الله فخافته.
حكيم بن حزام سيد شعاره الحب.. كان رضى الله عنه يطوف بالبيت ويقول: لا إله إلا الله، نعم الرب ونعم الاله، أحبه وأخشاه.
وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه – عز وجل – أحبه، وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الاقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة، ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة، وهى تحسره فى الدنيا وتروحه فى الآخرة.
قال خليد العصرى: يا إخوتاه: هل منكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه؟!، ألا فأحبوا ربكم – عز وجل – وسيروا إليه سيرا جميلا، لا مصعدا ومميلا.
ولله در القائل:
كانت لقلبــى أهواء مــفرقــــــــة فاسجمعت مذ رآك القلـــب أهوائــــــــى
فصار يحسدن من كنت أحسـده وصرت مولى الورى مذ صرت مولائـــــــى
تركت للناس دنياهم ولـــــهوهم شغلا بحبك يا دينــــــى ودنيائـــــــــــــــــى
وقال الشاعر:
أروح وقد ختمت على فـــــــــــؤادى بحبك أن يحل بـه سواكــــــا
فلو أنى استطعت غضضت طرفـــى فلم أنظر به حتــــى أراكـــــا
أحبك لا ببعضــــى بل بكلـــــــــــــــى وإن لم يبقى حبك لى حراكـا
وفـى الاحبــــاب مختص بوجـــــــــــد وآخر يدعى معه اشتراكــــــــا
وكل يدعى حبــــا لربـــــــــــــــــــــــى وربـــى لا يقر لهم بذاكـــــــــــا
إذا اشتبكت دمــوع فـــــــى خـــدود تبين من بكــى ممن تباكــــــى
فأما من بكـى فيذوب وجـــــــــــــدا وينطق بالهوى من قد تباكــى
وقال مسمع بن عاصم: سمعت عابدا من أهل البحرين يقول فى جوف الليل: قرة عينى وسرور قلبى !! ما الذى أسقطنى من عينك يا مانح العصم.. ثم صرخ وبكى، ثم نادى: طوبى لقلوب ملأتها خشيتك، واستولت عليها محبتك، فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك والاجتهاد فى خدمتك، وخشيتك قاطعة لها عن سبيل كل معصية جوفا لحلول سخطك. ثم بكى وقال: يا إخوتاه، ابكوا على فوت خير الآخرة، حيث لا رجعة ولا حيلة.
وعتبة الغلام القائل: تراك مولاى تعذب محبيك وأنت الحى الكريم:
" قال عنه سليم النحيف: رمقت عتبة ذات ليلة، فما زاد ليلته تلك على هذه الكلمات: إن تعذبنى فإنى لك محب، وإن ترحمنى فإنى لك محب. فلم يزل يرددها ويبكى حتى طلع الفجر.
وقال عنبسة الخواص: بات عندى عتبة الغلام ذات ليلة، فبكى من السحر بكاء شديدا، فلما أصبح قلت له: قد فزعت قلبى الليلة ببكائك، ففيم ذاك يا أخى؟ قال: يا عنبسة، إنى والله ذكرت يوم العرض على الله. ثم مال ليسقط فاحتضنته... فناديته: عتبة عتبة، فأجابنى بصوت خفى: قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين. قال: ويردده، ثم جعل يحشرج البكاء ويردده حشرجة الموت ويقول: تراك مولاى تعذب محبيك أنت الحى الكريم؟! قال: فلم يزل يرددها حتى والله أبكانى.
وقال عتبة – رحمه الله -: من سكن حبه قلبه لم يجد حرا ولا بردا. قال عبد الرحيم بن يحيى الدبيلى: يعنى من سكن حب الله قلبه، شغله حتى لا يعرف الحر من البرد، ولا الحلو من الحامض، ولا الحار من البارد.
وقال عتبة – رحمه الله -: من عرف الله أحبه، ومن أحب الله أطاعه، ومن أطاع الله أكرمه، ومن أكرمه أسكنه فى جواره، ومن أسكنه فى جواره فطوباه وطوباه، وطوباه وطوباه. فلم يزل يقول: وطوباه حتى خر ساقطا مغشيا عليه.
والخلاصة: لقح الحب بالخشية.. تقو على طريق السير إلى الله.
التاسع: الصبر لقاح اليقين:
أنا عل يقين بأن الله سينصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهل أنت على يقين؟.. يأتى اليقين بالصبر، قال - تعالى – " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " (السجدة: 24).. بالصبر واليقين تبلغ الامامة فى الدين.
الصبر على البلاء.. والصبر عن المعصية.. والصبر على الطاعة.. الصبر مع الله وبالله ولله.. الصبر لقاح اليقين.. فاصبروا – إخوتاه – صبرا جميلا.
علامات اليقين:
قال الفيروزآبادى: ثلاثة من أعلام اليقين:
1 – قلة مخالطة الناس فى العشرة.
2 – ترك المدح لهم فى العطية.
3 – التنزه عن ذمهم عند المنع.
ومن علاماته أيضا:
النظر إلى الله فى كل شىء، والرجوع إليه فى كل أمر، والاستعانة به فى كل حال.
العاشر: صحة الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقاح الاخلاص:
صحة الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم تورث الاخلاص، فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل ووجود أثره.
شروط قبول العمل شرطان: الاخلاص والمتابعة.. فإذا لم تكن مخلصا فأكثر من أعمال السنة يأتك الاخلاص. وإذا كنت لا تعمل.. إذا كنت بطيئا وضعيفا وخاملا، فأكثر من الاخلاص يضعك الله فى الخدمة فتكون من خدامه.. إذا فلابد من وجود أحد الشرطين لديك ليتوفر الاخر.. وآه ممن فقد الشرطين !!.. كيف يكون حاله؟!.. وماذا يصنع؟!.. ليس له إلا أن يقول: يا رب.
كنت أقول لأولادى الصغار مرة: لو أخلص الواحد منا أثمر ذلك متابعة النبى صلى الله عليه وسلم، أم لو تابع النبى صلى الله عليه وسلم أثمر الاخلاص؟.. هذه هى قضية " البيضة أم الفرخة؟ ".. الاثنان معا.. يجلب أحدهما الآخر.. هذا هو اللقاح.. فلو كنت مخلصا فلابد أن تكون حالك متابعة النبى صلى الله عليه وسلم، ولو كنت متبعا فلابد أن تكون حالك الاخلاص.
وثمرة الاخلاص والمتابعة قبول العمل ووجود ثمرة العمل.. أن تجد نتيجة العمل فلو كنت مخلصا متبعا وخرجت الى الشارع لا تنظر الى البنات مطلقا ذه نتيجة وثمرة العمل الصالح.. أنك لا تعصى.. لو كنت مخلصا أو متبعا لوجدت انك تستيقظ قبل الفجر تنتظر الصلاة فتجلس حاضر القلب.. ثمرة ونتيجة.. فتجد من نفسك اخباتا وخشية فى قلبك.
قال العلماء: " بين العمل وبين القلب مسافة وبين القلب وبين الرب مسافة وبين تلك المسافات قطاع طرق ".. فترى الرجل كثير الصلاة، كثير الصيام، كثير ذكر الله وقراءة القرآن ولم يصل الى قلبه من ذلك شىء.. نعم: قطاع طرق قطعوا الطريق عليه.. لكن لو عمل بإخلاص ومتابعة فلابد ان يصل الى القلب أثر العمل.
الحادى عشر: العمل لقاح العلم:
العلم والعمل وجهان لعملة واحدة وزوجان لا ينفصلان فى الاصل، ولذلك إذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة.. فإذا تعلمت ولم تعمل كنت منافقا، وإذا عملت بدون علم كنت مبتدعا.. والذى يعلم ولا يعمل فيه شبه من المغضوب عليهم اليهود، والذى يعمل بدون علم فيه شبه من الضالين النصارى.. إذا فلابد أن يقترن العلم بالعمل.. قال الامام على رضى الله عنه: " العلم يهتف بالعمل،فإن أجابه والا ارتحل ".. فاعمل بما علمت تزدد علما وتقى وخشية.. لقح العلم بالعمل.
قال الامام الشاطبى – رحمه الله تعالى – فى " الموافقات ":
" كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعى، وأعنى بلعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا ".. ويبين رحمه الله أن الدليل على ذلك استقراء الشريعة، فيذكر جملة من الايات والاحاديث الدالة على أن الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به.
ومن هذه الادلة باختصار: قوله – تعالى -: " يسألونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج " (البقرة: 189)، فوقع الجواب بما يتعلق به العمل، اعراضا عما قصده من السؤال عن الهلال: لما يبدو فى أول الشهر دقيقا كالخيط، ثم يمتلىء، ثم يصير بدرا ثم يعود الى حالته الاولى.
وقال – تعالى – بعد سؤالهم عن الساعة: " فيم أنت من ذكراها " (النازعات:43)، أى إن هذا سؤال عما لا يعنى، إذ يكفى من علمها أنه لابد منها، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال للسائل: " ما أعددت لها "، إعراضا عن صريح سؤاله، إلى ما يتعلق به مما فيه فائدة، ولم يجبه عما سأل.
وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكى كراهيته عمن تقدم.
ويؤكد الامام الشاطبى رحمه الله على أن كل علم طلب الشارع له، إنما يكون حيث هو وسيلة الى التعبد به الى الله.. قال – تعالى -: " وإنه لذو علم لما علمناه " (يوسف: 68)، قال قتادة: يعنى لذو عمل بما علمناه.
وروى عن أبى جعفر محمد بن على فى قول الله – تعالى –: " فكبكبوا فيها هم والغاون " (الشعراء: 94)، قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره.
وعن أبى الدرداء: إنما أخاف أن يقال يوم القيامة: علمت أم جهلت؟، فأقول: علمت، فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة الا جاءتنى تسألنى فريضتها، فتسألنى الآمرة: هل ائتمرت؟، والزاجرة: هل ازدجرت؟، فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال: أدركت الناس وما يعجبهم القول إنما يعجبهم العمل.
ويواصل الشاطبى حديثه قائلا:
والادلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى. وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لذاته من حيث النظر الشرعى وإنما هو وسيلة الى العمل. وكل ما ورد فى فضل العلم فإمنا هو ثابت للعلم من جهة ما يتوسل به اليه، وهو العمل.
وإنما يكون العلم باعثا عل العمل إذا صار للنفس وصفا وخلقا.. وهنا ينصح الشاطبى رحمه الله المشتغلين بالعلم، والذين لم يصلوا بعد الى مرتبة الذين صار العلم لنفوسهم وصفا وخلقا بعدم ترك العلم لعدم عملهم به بداية أو لسوء نيتهم فيه، عليهم بمواصلة الطلب، فإنه سيلجئهم حتما الى العمل.
يقول رحمه الله: " على أن المثابرةعلى طلب العلم والتفقه فيه، وعدم الاجتزاء باليسير منه، يجر إلى العمل به، ويلجىء إليه، وهو معنى قول الحسن: كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا الآخرة. وعن حبيب بن أبى ثابت: طلبنا هذا الامر وليس لنا فيه نية، ثم جاءت النية بعد. وعن أبى الوليد الطيالسى قال: سمعت ابن عيينة منذ اكثر من ستين سنة يقول: طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون ".
وإذا كان لقاح العلم العمل به، وأن زكاة العلم العمل.. هذا فى حق كل الناس، فهم مكلفون بالعمل.. إذا كان ذلك فالعمل فى حق من هم مظنة الاقتداء بهم أحرى وأولى.
وفى نهاية هذا البحث الماتع يقول الشاطبى – رحمه الله -: " فالحاصل أن الافعال أقوى فى التأسى والبيان إذا جامعت الأقوال، من انفراد الاقوال، فاعتبارها فى نفسها لمن قام فى مقام الاقتداء أكيد لازم، بل يقال: إذا اعتبر هذا المعنى فى كل من هو مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين، ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله. ولا فرق فى هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع وهذا البيان الشافى المخرج عن الاطراف والانحرافات هو الراد إلى الصراط المستقيم " اهـ.
الثانى عشر: الحلم لقاح العمل: الحلم أن تكون حليما فى شرع الله، وحليما مع خلق الله.
الحلم فى شرع الله: أن تشفق على العصاة والمذنبين وتنظر إليهم بعين الرحمة والعطف.. تتحملهم وتحاول أن تأخذ بأيديهم لتنقذهم من الغرق، لتدفعهم إلى طريق الله.. تبذل نفسك لتنتشلهم من نيران المعاصى المحرقة.. ويساعدك تذكر حالك قبل، وأن الله منّ عليك ونجاك.. وقديما قالوا: لا يضحك فى وجه العاصى الا عالم.. نعم: كلما ازداد الإنسان علما ازداد حلما.
قال منصور بن محمد الكريزى:
سألزم نفسى الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منــه إلىّ الجرائــم
فمــا النــاس الا واحــد من ثلاثـــــــة شريف ومشروف ومثل مقاوم
والحلم يبدل العداوة محبة، قال الله - تعالى -: " ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم " (فصلت: 34 – 35).. وفى ذلك يقول معين بن أوس المزنى:
فأبرأت غل الصدر منه توسعــا بحلمـى كمـا يشفـى بأوديـة كلـم
وأطفأت نار الحرب بينى وبينه فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلــــم
إخوتاه، الحلم طريق العمل.. فإذا كنت لا تعمل فكن حليما يأتك العمل.. كن حليما يحبك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس: " إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة " [أخرجه مسلم].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفيق يحب الرفق فى الأمر كله " [أخرجه البخارى].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه " [أخرجه مسلم].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بمن يحرم على النار – أو بمن تحرم عليه النار؟ - تحرم على كل قريب هين لين سهل " [صححه الألبانى].
أخى فى الله، حبيبى فى الله، كن حليما مع خلق الله، واقتد بنبيك صلى الله عليه وسلم وصحابته الأكرمين وسلفك الصالحين.
عن أنس رضى الله عنه قال: " كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مر لى، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء " [متفق عليه].
وشتم رجل أبا ذر رضى الله عنه، فقال له: يا هذا لا تستغرق فى شتمنا، ودع للصلح موضعا.. فإنا لا نكافىء من عصى الله فينا بأكبر من أن نطيع الله فيه.
وكانت أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – صائمة فأمرت جاريتها بريرة أن تصنع لها طعاما، لتفطر به، فتشاغلت عن ذلك حتى مضى النهار، وجاء المغرب، فلم تجد أم المؤمنين طعاما، فالتفتت إليها وقالت وهى تكتم غيظها: " لله در التقوى لم تدع لذى غيظ شفاء ".
" وقيل للأحنف بن قيس: من أين تعلمت الحلم؟، فقال: من قيس بن عاصم، قيل: وما بلغ حلمه؟ قال: بينما هو جالس فى داره، إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء، فسقط من يدها، فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية، فقال لها: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله – تعالى ".
" وقيل: إن أويسا القرنى كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة، فكان يقول لهم: يا إخوتاه، إن كان ولابد فارمونى بالصغار، حتى لا تدموا ساقى، فتمنعونى عن الصلاة ".
" وكان ليحيى بن زياد الحارثى غلام سوء، فقيل له: لم تمسكه؟!، فقال: لأتعلم الحلم عليه ".
وكان لمعاوية رضى الله عنه قطعة أرض وبجوارها أخرى لعبدالله بن الزبير رضى الله عنهما كان يجلس فيها هو وأهله.. فكان عمال معاوية يدخلون عليه..فكتب إلى معاوية يقول: يا ابن آكلة الأكباد، امنع عمالك عنى، والا كان لى ولك شأن.. والسلام.
فلما وقف معاوية على الكتاب دفعه لولده يزيد وقال له: ما ترى؟، قال: أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه. فقال له معاوية: غير هذا خير. ثم قلب الكتاب وكتب على ظهره: أما بعد: فقد وقفت على كتابك يا ابن حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا ابن ذات النطاقين، وساءنى ما ساءك.. ووالله لو كانت الدنيا بأسرها بينى وبينك لأتيتك بها.. وقد نزلت عن أرضى لك، فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والاموال.. والسلام.
فلما قرأها ابن الزبير رضى الله عنه بكى.. وكتب إليه: قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين – أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأى الذى أحله من قريش هذا المحل.. والسلام.
فلما وقف معاوية عليه تهلل وجهه وأسفر، وقال لابنه: يا بنى، من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.. فإذا ابتليت بشىء من هذه الامور فداوه بمثل هذا الدواء.
نعم – إخوتاه -: وصل هؤلاء إلى الله – تعالى – بترويض أنفسهم على طاعته ولزوم أوامره واجتناب نواهيه وهذا أيضا من الحلم فى شرع الله.. قال – جل جلاله -: " فاصفح الصفح الجميل " (الحجر: 85)، وقال – جل جلاله -: " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " (النور: 22)، والعفو: ترك المؤاخذة على الذنب، والصفح: ترك التأنيب عنه. وقال – جل جلاله -: " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " (آل عمران: 134)، وقال – عز وجل -: " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " (الشورى: 43).
والخلاصة: لقح العمل بالحلم.
وبعد – إخوتاه -: فهذه لقاحات على الطريق.. لقاحات على طريق السير والوصول إلى الله، تقويك وتهيىء لك أسباب الوصول.. فالزم كل زوج من هذه اللقاحات تجن ثمار خير كل منهما، لتقطع الطريق بقوة وسرعة وسهولة.. وتذكر دائما قول الله – تعالى – " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله ".. ففروا إلى الله.. الجأ إلى الله، واعتمد عليه، واستعن به.. وانطلق.
* * *
مختارات