قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الآلهة التي عُبدت من قبل آلهة لا وجود لها أصلاً إنما أوجدها بشر ضعاف العقول:
لا زلنا أيها الأخوة في آيات الأمثال، والآية اليوم:
﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
[سورة الروم]
أيها الأخوة، في حياة الناس، في حياة المجتمعات، في حياة الإنسان، في أي مكان، هناك موظف، وهناك شريك، والفرق بينهما كبير جداً، الموظف ينبغي أن يأتمر بما أمرت، وأن ينتهي عما عنه نهيت، الموظف بإمكانك أن تبقيه، أو أن تفصله، الموظف بإمكانك أن ترفع أجرته، أو ألا تستجيب له، لكن هذا الموظف لا يستطيع بيع الشركة، ولا رصد صفقة، ولا عقد شراكة، هذا موظف لكن الشريك يحاسبك، الشريك يطلب الحسابات، الشريك مخير أن يفصلك أو ينهي هذه الشركة، أنت وازن بين موظف وبين شريك، المسافة كبيرة جداً بينهما، فهل يعقل أن تعزو لله شركاء يتصرفون في ملكه كما يشاؤون؟ هل ترضى هذا لنفسك؟.
الله عز وجل يقول:
﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾
من حياتكم اليومية، من مجتمعاتكم، من عاداتكم وتقاليدكم، من طبيعة حياتكم، الشريك يخاف شريكه، لأن الشريك يحاسب، يطالبك بالحسابات، يطالبك بالوثائق، يطالبك بالدوام، يطالبك بأشياء كثيرة، أما الموظف فليس له الحق أن يلغي صفقة، ولا أن يعقد صفقة، ولا أن يبيع محل الشركة ـ مقرها التجاري ـ هذا مقرها التجاري، هل يعقل لموظف أن تعطيه صلاحية إدارة الشركة أو عقد صفقات أو رفض صفقات أو بيع المقر؟ مستحيل.
فكيف ترضون أنتم يا عبادي أن تنسبوا لشركاء توهمتم أنتم وجودهم، هم ليسوا موجودين، وتعطونهم صلاحية الرزق، والخير، والشر، هذا الذي فعله الإنسان، فعله أنه عبد آلهة من دون الله.
﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾
[سورة الزمر الآية: 3]
لذلك الآلهة التي عُبدت من قبل آلهة لا وجود لها أصلاً، إنما أوجدها بشر ضعاف العقول، توهموها آلهة وهي ليست كذلك.
الله عز وجل ما أمر الإنسان أن يعبده إلا بعد أن طمأنه:
لذلك الآية:
﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ ﴾
يعني هذا المثل، وهذه آية المثل تعني شيئاً واحداً أنه لا إله إلا الله، لا متصرف في الكون إلا الله، لا معطي إلا الله، لا مانع إلا الله، لا معز إلا الله، لا مذل إلا الله، لا رافع إلا الله، لا خافض إلا الله، هذا هو الدين، الدين كله توحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
أنت حينما تتوهم أن الله أسلمك إلى جهة أرضية، كيف تعبده؟ أسلمك إلى طاغية أو إلى قوي، أسلمك إليه، وهذا الطاغية لا يعرف الله أبداً، أمرك بمعصية الله، فإذا توهمت أن مصيرك بيد هذا الطاغية أو هذا القوي أنت نقضت إيمانك كله.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾
[سورة هود الآية: 123]
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك، أنت حينما تؤمن بدءاً من صحتك؛ عمل القلب، الشريان التاجي، عمل الكليتين، فشل كلوي، مرض عضال، يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، والله الأمراض العضالة شهد الله معظم الناس يتمنون الموت لأنها تحيل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق.
بطولة الإنسان أن يوحد لأن الدين هو التوحيد:
لذلك حينما تعزو ما أنت فيه إليك وتنسى الله، وقعت في الشرك الخفي إذا كنت تدعي أنك مؤمن، لكن البطولة أن توحد، لأن الدين هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، ألا ترى مع الله أحداً، ألا ترى يداً تعمل وحدها، ألا ترى أن الأقوياء بيدهم الأمر، الأمر ليس بيدهم،
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ﴾
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
[سورة هود الآية: 123]
ولكن من هم الأقوياء؟ هنا السؤال، الأقوياء هم عصي بيد الله، سيدنا هود ذكر هذا المعنى بدقة بالغة، أو ذُكر في القرآن على لسان سيدنا هود، قال:
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
[سورة هود]
شأنك أيها الإنسان كشأن إنسان ضعيف أمام وحوش كاسرة، إلا أن هذه الوحوش كلها مربوطة بأزمة متينة لا تنقطع، بيد جهة عليمة، حكيمة، رحيمة، عادلة، فأنت أيها الإنسان الضعيف علاقتك مع هذه الوحوش أو علاقتك مع من يملك ناصيتها؟ ضعاف الإيمان علاقتهم مع الوحوش، المؤمنون علاقتهم مع من يملكون الوحوش.
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، أنت حينما ترى أن حياتك، وصحتك، ورزقك، وأهلك، وأولادك، وعلاقاتك، بيد الله عليك أن تعبده.
سيدنا النبي الكريم، أردف معاذ بن جبل وراءه، قال: يا معاذ ما حق الله على عباده؟ ـ كان متأدباً ـ قال: الله ورسوله أعلم، سأله ثانية وثالثة، ثم أجابه، قال: يا معاذ حق الله على عباده أن يعبدوه، وألا يشركوا به شيئاً، ثم سأله: يا معاذ ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه؟ قال: الله ورسوله أعلم، سأله ثانية وثالثة، ثم أجابه، والآن دققوا في هذا الجواب قال: يا معاذ حق العباد على الله إذا هم عبدوه ألا يعذبهم.
هذا الكلام لنا جميعاً، يجب أن تطمئن، يجب أن يمتلئ قلبك رضاً، وأمناً، أنه مادمت على حق، لا تخف،
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
من يعمل عملاً يبتغي به وجه إنسان وينسى الواحد الديان فقد وقع في الشرك:
لذلك أيها الأخوة، الإنسان حينما يؤله غير الله لا يقول أن هذا إله، لا، لا أحد يقولها، أما حينما يتوهم أن مصيره بيده، حياته بيده، رزقه بيده، هذا الوهم شرك خفي، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً، ولكن شهوة خفية، وأعمالاً لغير الله)
[البزار عن عبد الرحمن بن غنم]
حينما تعمل عملاً صالحاً تبتغي به إنساناً وتنسى الواحد الديان، وقعت في الشرك.
أيها الأخوة، ما في مرض يسري في المؤمنين من دون أن يشعروا كالشرك الخفي، الدليل:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
[سورة يوسف]
أنت حينما ترضي زوجتك وتعصي ربك مشرك، أنت رأيت أن إرضاءها أكبر عندك من إرضاء الله، فأرضيتها وعصيت ربك، هذا شرك، صدق ولا أبالغ ولست متشائماً لا ينجو من الشرك الخفي أحد، لكن البطولة أن تتابع لا أن تتوهم، أن فلاناً بيده مصيري، وفلاناً بيده دخلي، وفلاناً يستطيع أن يسرحني، وفلاناً يقدر أن يبعدني، لا لا.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يسلمك إلى خلقه ثم يأمرك أن تعبده،
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
العقل مهمته الأولى أن يمنع الإنسان عن أن يخطئ أو أن يأخذ قراراً خاطئاً:
الآية:
﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾
من حياتكم، من علاقاتكم،
﴿ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾
ممن يعمل معكم تحت إمرتكم،
﴿ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾
للتقريب: أنت مدير شركة، أنت أسستها، اشتريت المحل والمستودعات، واشتريت البضاعة، وسافرت إلى المعارض، وروجت البضاعة، وعندك موظفون، هل يستطيع هذا الموظف أن يبيع الشركة أو أن يعقد صفقة من وراء ظهرك أو أن يلغي صفقة أو أن يأخذ مقام الشريك؟ لا، مستحيل! هذا موظف، الشريك شيء آخر.
قال:
﴿ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾
أنفسكم أي شركاؤكم بالعمل التجاري، أنت تحسب ألف حساب للشريك، بإمكانه أن يفك الشركة، تحسب ألف حساب للشريك، بإمكانه أن يحاسبك، تحسب ألف حساب للشريك، بإمكانه أن يدقق الحسابات، أما الموظف فليس من صلاحيته، ولا من مقامه، ولا من شأنه أن يدقق الحسابات، لأنه موظف.
إذاً:
﴿ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾
أي كخيفتكم من شركائكم،
﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
لِمَ سمي العقل عقلاً؟ لأنه يعقلك عن أن تخطئ، قال له:
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله: أأعقلها أم أتوكل على الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعقلها وتوكل)
[رواه الترمذي وابن ماجه وقال حديث حسن صحيح]
عقلته: ربطته، العقل مهمته الأولى أن يمنعك عن أن تخطئ، يمنعك أن تأخذ قراراً خاطئاً، هذه مهمة العقل، فلذلك ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
وهذه الآية المثل تبين أن الشريك شريك، والأجير أجير، فإذا توهمت أن هذا الأجير بإمكانه أن يتخذ قرارات من صلاحية صاحب الشركة، فأنت في سذاجة كبيرة جداً، وكذلك من يقع في الشرك الخفي.
والحمد لله رب العالمين
مختارات