قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
البشر نوعان؛ مُقبل ومُعرض:
أيها الأخوة الكرام، آية المثل هي قوله تعالى:
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
[سورة المدثر]
بالمناسبة، من الصور البلاغية والبيانية التشبيه، فقد يشبه الله في قرآنه الكريم شيئاً بشيء بأداةٍ ووجه شبه، فإذا قلت مثلاً: عليٌ كالأسد في الشجاعة، فعليٌّ مشبه، والأسد مشبه به، والأداة هي الكاف، ووجه الشبه، هو الأسد، في أي تشبيهٍ لابدّ من مشبهٍ ومن مشبهٍ به ومن أداة التشبيه ومن وجه الشبه، هذه أركان التشبيه، لذلك قد تكون الأداةُ مثل، أو الكاف، أو ما شاكل ذلك، وقد تحذف الأداةُ ويحذف وجه الشبه عندئذٍ يكون التشبه بليغاً، عليٌ أسدٌ، فقد حذفنا وجه الشبه في الشجاعة، وحذفنا أداة التشبيه الكاف، وقد يكون التشبيه تاماً، فيه وجه الشبه، وأداة، ومشبه، ومشبه به.
في هذه الآية الله عز وجل يُشبه الإنسان الذي أعرض عنه بالحمر، ذكرته فلم يتذكر، نبهته فلم ينتبه، وعظته فلم يتعظ، لفتّ نظره فلم يلتفت، بالغت في توضيح الحقائق له فجعل أصابعه في آذانه، وقال: إنا عن هذا الكلام معرضون، هذا الإنسان المعرض، فالبشر نوعان: مقبل ومعرض، مستقيم ومنحرف، من أهل الدنيا أو من أهل الآخرة، محسن أو مسيء.
من أعرض عن ذكر الله عز وجل له حياة شقيّة تعيسة:
في النهاية البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، وانتماءاتهم، وطوائفهم، ومذاهبهم، وتياراتهم، وتابع هذا التقسيمات إلى ما شاء الله، كلها تقسيمات بني البشر، لكن البشر جميعاً عند خالق البشر صنفان:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
[سورة الليل]
عرف الله، انضبط بمنهجه، أحسن إلى خلقه، سلم، وسعد في الدنيا والآخرة، غفل عن الله، تفلت من منهجه، أساء إلى خلقه، هلك وشقي في الدنيا والآخرة، هم نموذجان، فهذا الذي ذكرته فلم يتذكر، نبهته فلم ينتبه، دعوته فلم يستجيب، أعرض عن ذكر الله.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ﴾
[سورة طه الآية:124]
له حياة شقية.
ضيق القلب هي المعيشة الضنك التي يعاني منها القوي والغني الغافل عن الله عز وجل:
لكن هناك أحد المفسرين لفت نظري في هذا التساؤل، قال: فما بال الأقوياء والأغنياء؟ ملك يملك كل البلاد، كفرعون مثلاً، ما معيشته الضنك؟ لو طلب الأشياء النادرة المستحيلة كانت أمامه، هذا شأن الملك دائماً، والغني الذي يملك مليارات ممليرة، ما معنى المعيشة الضنك عند هؤلاء؟ عند الأقوياء وعند الأغنياء، المال موجود، الأطباء كلهم في خدمته، القصور، الطعام، الشراب، الأثاث، الثياب، المكانة، هؤلاء الأقوياء والأغنياء ما هي المعيشة الضنك التي يعيشونها؟ على الشبكية لا يوجد معيشة ضنك، هناك بيوت، و قصور، ومركبات، وطعام، ووجاهة، وإعلان، وإعلام، ما معنى المعيشة الضنك عندهم؟ قالها هذا المفسر: إنها الشدة النفسية، ضيق القلب، صدقوا ولا أبالغ، بقلب المعرض عن الله من القلق والخوف ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم.
تشبيه الإنسان الغافل عن الله بحمر سمعت صوت الأسد فولت هاربة لا تلوي على شيء:
قال تعالى:
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴾
لعلكم تذكرون أن حمر الوحش، الحمر المخطط طولاً، بيضاء وسوداء، هذه الحمر إن سمعت صوت الأسد ولت مدبرة لا تلوي على شيء.
لذلك قال تعالى:
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
قسورة: الأسد، معنى ذلك أن الله يشبه هذا الإنسان الغافل، هذا الإنسان المعرض، هذا الإنسان الشارد، هذا الإنسان الذي لم يستجيب، لم يرعوِ، لم يتأثر، لم يفعل شيئاً في حياته، هو غارق بملذاته وشهواته، هذا شبه بحمر سمعت صوت الأسد فولت هاربة لا تلوي على شيء، المستنفرة غير نافرة، طبعاً نَفَرَ ينفرُ نافر، هنا مستنفرة، من شدة الخوف، أي بعضها ينفر من بعض.
هناك تجربة دقيقة جداً تعني شيئاً كثيراً، جاؤوا بقرد وضعوه بقفص، علقوا في سقف القفص فاكهة الموز، والقرد يحبها كثيراً، فلما تطاول ليأكل من هذه الفاكهة جاء من يضربه وينهاه، لما تطاول ثانيةٍ جاء من يضربه وينهاه، ثالثةً رابعةً فيئس، أدخلوا عليه قرداً آخر، فلما تطاول هذا الآخر ليأكل من هذه الفاكهة، القرد الأول هو الذي نهاهُ وعنفه.
أحياناً الناس يخافون، من مظاهر خوفهم أنهم يُخوفون بعضهم بعضاً، أي إذا الإنسان تكلم بكلمة حق هناك من يعترض عليه، يقول له: ليس لك من هذا الكلام، دعك من هذا الكلام، انجُ بريشك، الناس عندئذٍ يسهمون بتخويف بعضهم بعضاً، لذلك:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾
[سورة آل عمران]
فأنت أحياناً مشكلتك مع الناس، لو وقفت موقفاً أخلاقياً، لو وقفت موقفاً جريئاً، لو وقفت موقفاً رائعاً، الذين يخوفونك هم الذين حولك،
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ﴾
جمع حمار، وهو حمار الوحش،
﴿ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴾
كل حمار ينفر الآخر، ليست القضية المجموع خاف من هذا الوحش، لا، الواحد من هؤلاء الحمر يخوف الآخر،
﴿ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
القسورة هي الأسد.
كل إنسان أعرض عن ربه وتوجه إلى شهواته فهو ممن تنطبق عليه الآية التالية:
لذلك أيها الأخوة، من يتمنى أن يشبه في القرآن الكريم بالحمر المستنفرة؟ هذا كلام الله، هذا هو الحق المبين، هذا هو كلام خالق السماوات والأرض، فكل إنسان أعرض عن ربه، وتوجه إلى شهواته، ولم يستجيب لنداء الله عز وجل، فهو ممن ينطبق عليه هذا الكلامُ العظيم،
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
مثلاً: تجد إنساناً غافلاً عن الله، شارداً، غارقاً في ملذاته، في انحطاطه، قد يشعر بألمٍ في القسم الأيسر من صدره، يذهب إلى الطبيب فإذا هي آفة قلبية، تقربه من الموت، الهلع، والخوف، والجزع، واختلال التوازن، شيء لا يصدق.
مرة سألت طبيب قلب مقيم في أمريكا عن حال مرضاه الذين أصيبوا بأمراض القلب، قال لي: فزعهم عجيب، الإنسان إذا شرد عن الله، ولم يستجب لله، ليس له عمل يقبله الله عز وجل، هذا إذا أصابه مرض عضال انهارت معنوياته.
حدثني أخٌ كريم يعمل مضيفاً في طائرة، هذه الطائرة دخلت في سحابة مكهربة وكانت على وشك السقوط، طبعاً تحطمت مقدمتها، تحطم زجاج الطيار، واختل توازنها، وكانت على وشك السقوط، يصف لي ركاب الطائرة وصفاً لا يصدق، أكثرهم يضربُ وجهه بيديه، بعضهم مزق ثيابه، بعضهم صاح: يا ويلتاه، أي وضع الركاب وضع مخيف، فاضطراب الركاب سبب ضغطاً على الطيار، فطلب من بعض المضيفين أن يهدئهم، فقال له: لا أحد يستجيب لي، فأجابه: ابحث عن إنسان هادئ، فوجد إنساناً هادئاً فقال: هذا أنسب إنسان، فقال له: قم وأعن الطيار على تهدئة الركاب، وجده مغمىً عليه، هذا الوحيد.
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾
أي إنسان درس وتعلم ولم يعبأ بمنهج ربه فهذا مثله عند الله كمثَلِ الْحِمَارِ:
مثل آخر، قال تعالى:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
[سورة الجمعة الآية:5]
بربك، ائتِ بحمار وعلى ظهره كتاب بالفيزياء، كتاب بالفلك، كتاب بالإعجاز العلمي، كتاب بالطب، كتاب بالفلسفة، وسر به ساعة من الزمن، ثم اسأله سؤالاً عن الفلك، عن المجرات، عن الأبعاد الفضائية، عن الشمس، عن القمر، أو اسأله سؤالاً بالفيزياء، عن الطاقة، أو المادة، أو تحول ذاتهما، أو اسأله سؤالاً بالكيمياء، أو اسأله سؤالاً بالرياضيات، بماذا يجيبك؟
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
[سورة الجمعة الآية:5]
فأي إنسان درس وتعلم ونال شهادات عليا، وعاش لشهواته، وحظوظه، ولم يعبأ لا بمنهج، ولا بدين، ولا بحلال، ولا بحرام، هذا مثله عند الله عز وجل
﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
مرة ذكرت في الخطبة كلمة حمار، فهناك إنسان لم يرتح لهذه الكلمة، ولم يرَ بها صواباً، لا يقال على المنبر كلمة حمار، فقلت له: من قال لك ذلك؟ الله عز وجل بالقرآن ذكر كلمة حمار في كتابه لكريم،
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
لكن بالمناسبة البشر، بل علماء بني البشر، أو نخب بني البشر، أو أذكى أذكياء بني البشر، لا يستطيعون أن يتنبؤا بالزلزال ولا قبل ثانية واحدة، بينما الحمار يتنبأ به قبل عشرين دقيقة، في زلزال تسونامي هناك قبيلة نجت بأكملها، حينما رأت الحمير قبل عشرين دقيقة من الزلزال تفر نحو الجبل، فلحقت الحمير فنجت.
لحكمة بالغة، إنسان معه دكتوراه، معه أعلى شهادة، لا يستطيع التنبؤ ولا قبل ثانية بالزلزال، بينما الحمار يتنبأ به قبل عشرين دقيقة.
والحمد لله رب العالمين
مختارات