قال تعالى: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
المقارنة بين إنسان خامل معتزل الناس وبين إنسان يأخذ بيد الخلق إلى الله:
أيها الأخوة الكرام، من آيات الأمثال هذه الآية، وهي قوله تعالى:
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾
[سورة النحل: 75]
إنسان مكبل، مقيد، خامل، منطوٍ على نفسه، معتزل الناس، لا يفكر بعمل صالح، ولا بخدمة إنسان، ولا بعطاء، ولا بنصيحة، ولا بدعوة، يعيش ليأكل، وإنسان آخر:
﴿ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ﴾
[سورة النحل: 75]
رزقه علماً، ومالاً، وحكمة، وطلاقة لسان، وقدرة على التأثير، يعمل ليلاً نهاراً في خدمة الخلق، يأخذ بيد الخلق إلى الله، يوفق بينهم، يقرب فيما بينهم، يطعم جائعهم، يرعى مريضهم، يصل من قطعه، يعطي من حرمه، يعفو عمن ظلمه، هل هناك تساوٍ بين هذين الشخصين؟
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
[سورة السجدة: 18]
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
[سورة الجاثية: 21]
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن:
أيها الأخوة الكرام، أريد أن أبين لكم هذه الحقيقة، هناك من يتوهم أن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن؛ أن المؤمن يصلي فقط، ويصوم، ويحج بيت الله الحرام، ويؤدي زكاة ماله، لا والله، والله الفرق لا تستوعبه الصفحات، ولا خطب في سنوات، الفرق جوهري، هناك ذهب عياره أربعة وعشرون، و ذهب عياره واحد وعشرون، وذهب ثمانية عشر، الفرق بينهما بالدرجة، لكن هناك قطعة ألماس رأيتها بعيني في متحف في اسطنبول، توبي كوبي، ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، بحجم البيضة، وهناك قطعة فحم لا تساوي قرشاً، والألماس أصله فحم هل يستويان؟
أنا أريد أن أقول لكم المؤمن الحقيقي إنسان آخر، إنسان آخر بمبادئه، بقيمه، بأخلاقه، بأذواقه، برحمته، بعدله، بإنصافه، بسعادته، بتوفيقه، الدعاة إلى الله لا يدعونكم إلى أن تصلوا فقط، يدعونكم إلى سعادة الدنيا والآخرة، يدعونكم إلى الفلاح، أن تكسب الدنيا والآخرة معاً، أو أن تكون نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة، إذا دعاك الله إليه، دعاك إلى رحمته، دعاك إلى أن تكون غنياً، قوياً، عفيفاً، متألقاً، تملك سعادة الدنيا والآخرة.
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا ﴾
[سورة النحل: 75]
تجلس مع إنسان لا يحدثك كلمة في الدين، إلا بأسعار السيارات، بالأسهم، بالتجارات، بالبيوت، والمركبات، همه الدنيا، لذلك ورد في بعض الأحاديث:
(من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة)
[الترمذي عن أنس]
عرف أنه مخلوق للجنة، مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض.
عدم استواء المؤمن مع غير المؤمن بنص القرآن الكريم:
إنسان عرف الله، عرف طريقه إلى الجنة، عرف الحق والباطل، عرف الخير والشر، عرف الحلال والحرام، عرف ما يمكن وما لا يمكن، ما يجوز وما لا يجوز، تضبطه القيم، تحكمه المبادئ، يرتقي من حال إلى حال، إنسان آخر عرف الطعام والشراب، عرف النساء، عرف الشهوات، يعبدها من دون الله، اتخذ إلهه هواه، الفرق كبير جداً أكبر مما تتصورون، لذلك يكفيك قوله تعالى:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
[سورة السجدة: 18]
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
[سورة القلم: 35-36]
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
[سورة الليل الآيات: 5-6]
وبنى حياته على العطاء، يتقرب إلى الله بالعطاء، بخدمة الخلق، بنصيحتهم، يرحمهم، يحلم عليهم، يصبر على مسيئهم، ينتظر مدينهم، وبين إنسان يسعى لشهوته، يسعى لمتعته، فرق كبير جداً، لذلك:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
[سورة القلم: 35-36]
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
[سورة السجدة: 18]
المؤمن واضح يعمل تحت ضوء الشمس و لا يخشى في الله لومة لائم:
الآية دقيقة جداً:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[سورة القصص: 61]
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا ﴾
[سورة النحل: 75]
مقيد بشهواته، محبوس في ترهاته، مرة كنت في الكويت ألقى أخ محاضرة كان في بلد محتل من قبل العدو الصهيوني، لكن أهله على درجة عالية من التدين، أقسم لي بالله قال لي: نحن المحاصرون، وليسوا هم، نحن محاصرون بشهواتنا، ومصالحنا، هم أحرار، فلذلك المسافة كبيرة جداً بين الذهب وهو من أثمن المعادن وبين أخس المعادن، أنا مرة اطلعت على مقالة سفينة قبل مئتي عام غرقت في المحيط الأطلسي، ومحملة بخمسة أطنان من الذهب الخالص، في النهاية عثر عليها، واستخرجوا الذهب، ونظرت إلى صورة الذهب، مئتا عام في البحر وكأن الذهب يلمع لمعاناً مذهلاً، الذهب ذهب، المؤمن ألماس أو ذهب، لا يخونك، لا يكذب عليك، لا يحتال عليك، لا يغتابك، لا يمكر فيك، لا ينافق، لا يتذلل، لا يتضعضع، ليس دخيلاً، كريم، مبادئه واضحة، يعمل تحت ضوء الشمس، لا يخشى في الله لومة لائم، المؤمن واضح.
(قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ)
[ابن ماجه عن العرباض]
المسافة الكبيرة بين المؤمن و الكافر:
الآية التالية تريد أن تبين كم هي المسافة كبيرة بين مؤمن وكافر، أقسم لكم بالله لو أن إنساناً دخله لا يزيد عن مبلغ لا يكفيه أسبوعاً من الشهر، وساكن في بيت صغير، قميء، وطعامه خشن، وثيابه خشنة، لكنه مؤمن، لكنه يعرف الله، وآخر معه ألف مليار، ألف مليون، وساكن بأجمل بيت، ويركب أجمل مركبة، وعنده أجمل زوجة، يقتني أغلى الآلات، ليس هناك مسافة تجمع بينهما:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
[سورة السجدة: 18]
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[سورة النحل: 75]
بل أكثرهم لا يعلمون السعادة التي ينعم بها المؤمن، لا يعلمون الأمن الذي يملأ قلب المؤمن، لا يعلمون الراحة التي يعيشها المؤمن، لا يعلمون البصيرة التي يملكها المؤمن، لا يعلمون مقدار هذا النور الذي يقذفه الله في قلب عبده المؤمن.
المؤمن مقيد بالإيمان وبمنهج الرحمن والإنسان الآخر متفلت يفعل أي شيء من أجل متعته
مثل آخر:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ﴾
[سورة النحل: 76]
أخرس، لا يتكلم كلمة خير، ولا يفكر بدعوة إلى الله، ولا بنصيحة، ولا بالتوفيق بين شخصين:
﴿ أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
[سورة النحل: 76]
من خلال هذين المثلين في هذه الآية يتضح أن المسافة كبيرة جداً بين مؤمن وغير مؤمن، وآيات كثيرة تدعونا إلى الموازنة، إنسان ترتاح له، لا تخاف منه، لا تخاف أن يغدرك، لا تخاف أن يطعنك بالظهر، لا تخاف أن يغتابك، لا تخاف أن يحتال عليك، لا تخاف أن يفعل معك شيئاً لا يرضي الله.
(الإِيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ)
[أخرجه أبو داود عن أبي هريرة]
مقيد بالإيمان، مقيد بمنهج الرحمن، والإنسان الآخر متفلت، يفعل أي شيء من أجل متعته، يرتكب كل حماقة من أجل شهوته، يركب رأسه أحياناً، يتناقض، يقسو ولا يرحم، يأخذ ولا يعطي، يعلو ولا يتواضع، هؤلاء النموذجان في حياة الناس.
الناس عند الله نموذجان لا ثالث لهما:
لذلك:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾
[سورة الليل: 1-4]
على وجه الأرض ستة آلاف مليون إنسان، يتحركون، قف على شرفة بيتك وانظر إلى الطريق الساعة الثامنة، مزدحم بالمركبات، والمشاة، كل إنسان يتحرك إلى هدف، تصور ستة آلاف مليون إنسان في القارات الخمسة يتحركون، كل هذه الحركات لا تزيد عن حركتين، فقط:
﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
[سورة الليل الآيات:5-6]
صدق أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصي الله فبنى حياته على الإحسان، والثاني:
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾
[سورة الليل الآية: 8-9]
كذب بالجنة تكذيباً عملياً، لم يعبأ بها إطلاقاً، إنسان بالثمانين أنشأ كازينو في لبنان، بالثمانين لا يدخل الجنة في حسابه إطلاقاً، لا الجنة ولا النار، الثاني؛ كذب بالحسنى، كذب بالجنة، فاستغنى عن طاعة الله، فبنى حياته على الأخذ، المؤمن يعطي، غير المؤمن يأخذ، هذا الفرق الكبير، المؤمن يسعده العطاء، الآخر يسعده الأخذ.
فلذلك أيها الأخوة، كأن الله عز وجل يريد من هذه الآية التي فيها مثلان أن يبين المسافة الكبيرة جداً بين المؤمن وبين غير المؤمن.
والحمد لله رب العالمين
مختارات