فقه حقيقة العبودية (١٤)
وهذه القواعد الثلاث:
تقوى الله.
واتباع وحيه.
والتوكل عليه.
مع مخالفة الكافرين والمنافقين.
هي العناصر التي تزود المسلم بالرصيد، وتقيمه في مجال العبادة والدعوة والتعليم والجهاد، متقياً لربه، متبعاً لوحيه، متوكلاً عليه.
إن قلب الإنسان واحد فـ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الاحزاب: ٤].
إنه قلب واحد، فلا بدَّ له من منهج واحد يسير عليه، ولا بدَّ له من تصور كلي واحد للحياة يستمد منه، ولا بدَّ من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوم به الأحداث والأشياء، وإلا تمزق وتفرق، ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.
ولا يملك الإنسان، ولا يليق به، لا يحق له، ولا يحسن منه أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين.
وأن يستمد شعائره من معين آخر.
وأن يستمد شرائعه من معين ثالث.
وأن يستمد تنظيم أو صناعة في شئون الحياة من معين رابع.
وأن يستمد تصوراته من معين خامس.
فهذا الخليط المشروب من جهات شتى.
لا يكوِّن إنساناً له قلب مستقيم.
إن صاحب العقيدة لا يتجرد من مقتضياتها في موقف واحد من مواقف حياته كلها صغيراً كان هذا الموقف أو كبيراً.
فلا يتكلم كلمة ولا يتحرك حركة، أو ينوي نية إلا حسب عقيدته؛ لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة، في كل حالة من حالاته على السواء.
وبهذا القلب الواحد الثمين يعيش فرداً، ويعيش في الأسرة، ويعيش في المجتمع، ويعيش في الدولة، ويعيش في العالم، ويعيش سراًَ وعلانية، ويعيش عاملاً، ويعيش صاحب عمل، ويعيش حاكماً أو محكوماً، ويعيش في السراء والضراء.
فلا تتبدل موازينه.
ولا تتبدل قيمه.
ولا يتغير تصوره.
فهو قلب واحد، يؤمن بإله واحد، ويعمل بوحي واحد، ويسير على منهج واحد، ويستسلم لرب واحد، وهو الله وحده.
فالقلب الواحد لا يعبد إلهين، ولا يخدم سيدين، ولا ينهج منهجين، ولا يتجه اتجاهين.
وما يفعل شيئاً من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق، ويتحول إلى أشلاء وركام، وذلك هو الضلال البعيد.
فهل بعد هذا من بيان؟ وهل فوق هذا من برهان؟
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)} [ق: ٣٧].
إن الله خلق الجن والإنس لغاية معينة، وهي عبادته وحده لا شريك له، وهذه وظيفة عظيمة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بخالق الكون هي عبادة الله، بأن يكون هناك رب وعبد، وأن تستقيم حياة العبد على أوامر الرب سبحانه في جميع الأحوال.
فمدلول العبادة أوسع من مجرد إقامة الشعائر، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر فقط، والله لا يكلفهم هذا وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم أوقاتهم.
أما الإنس فنعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان من القرآن من قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠].
فالخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تتطلب ألواناً من النشاط في عمارة الأرض، والتعرف على قواها وطاقاتها، وتحقيق مراد الله في الانتفاع بها، وتنفيذ أوامره عند استخدامها.
كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، وتنفيذها في عباده.
فالعبودية تقوم على أمرين:
أحدها: استقرار معنى العبودية لله في النفس، والشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد.
الثاني: التوجه إلى الله بكل هاجس في القلب، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر.
وبهذا وذاك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد، والرضى بقدر الله، كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه مخلوق للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له، لا أرب له فيها ولا غاية من ورائها إلا الطاعة لربه ومولاه.
وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة، ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً، وفضلاً عظيماًَ.
فهو يقوم بالخلافة في الأرض وينهض بتكاليفها، وفي الوقت ذاته ينفض يديه منها خالص القلب من جواذبها.
ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها هي، ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ثم الفرار إلى الله تعالى منها.
ومن مقتضيات معنى العبادة أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها، فالإنسان غير معلق بالنتائج، إنما هو معلق بأداء العبادة، في القيام بهذه الأعمال وتنفيذ تلك الأوامر، ولأن الجزاء ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها، ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال.
فينظر فيها ابتداءً إلى معنى العبادة الكامن فيها، ومتى تحقق هذا المعنى انتهت مهمته، وتحققت غايته.
أما النتائج فأمرها إلى الله، ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه وضمن جزاءه بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل، فلن تبقى في قلبه بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب على أعراض هذه الحياة.
فلا يكون حافز المسلم على العمل هو الحرص على تحصيل الرزق فهو مضمون، بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة في طلب الرزق بامتثال أوامر الله فيه.
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق، أفق العبادة في كل أمر، بتحقيق العبودية لله فيه، ويستقر عليه، فإن نفسه تأنف من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة، ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله، وجعل كلمة الله هي العليا.
فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة العالي الكريم، ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات، تحقيقاً لمعنى العبادة في الأداء، أما الغايات فموكولة إلى الله، ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله.
وبهذا يستمتع العبد براحة القلب وطمأنينة النفس، وصلاح البال في جميع الأحوال، سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها، فهو قد أنهى عمله وضمن جزاءه، عند تحقق معنى العبادة.
وقد علم أنه عبد، وعلم أن الله رب، فلم يعد يقتحم فيما هو من شئون الرب، ولا يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد، واستقرت مشاعره عند هذا الحد.
إن هذا الكون العظيم كله مرتبط ارتباط العبودية بخالقه المبدع، والكون خليقة حية ذات روح، روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن، ولكنها في حقيقتها واحدة.
مختارات