فقه الفكر والاعتبار (٢)
والمسلم لا بد أن يعبد الله على بصيرة، والبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به العبد حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين.
والبصيرة ثلاثة أقسام، من استكملها فقد استكمل البصيرة:
الأولى: بصيرة العبد في أسماء الله وصفاته وأفعاله.
الثانية: بصيرة في أمر الله ونهيه.
الثالثة: بصيرة في وعد الله ووعيده.
فالبصيرة في الأسماء والصفات، أن يشهد قلبك الرب تعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، ناطقة وصامتة، ساكنة ومتحركة.
سميعاً لأصواتهم.
رقيباً على ضمائرهم.
مطلعاً على أسرارهم.
ويشهد أمر الممالك والخلائق تحت تدبيره، نازلاً من عنده، صاعداً إليه.
وملائكته بين يديه، تنفذ أوامره في أقطار السموات والأرض، موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال، منزهاً عن العيوب والنقائص والمثال.
حي لا يموت.
قيوم لا ينام.
له الخلق والأمر.
يفعل مايشاء.
ويحكم ما يريد.
والبصيرة في الأمر والنهي، ألا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله، ولا تقليد يريحه من بذل الجهد في تلقي الأحكام من النصوص.
والبصيرة في الوعد والوعيد، أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر، في دار العمل وفي دار الجزاء، وذلك موجب إلهيته وربوبيته، وعدله وحكمته.
فالمعاد معلوم بالعقل، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي.
وتشهد أهل الجنة يتنعمون فيها.
وأهل النار يعذبون فيها.
ولا يزال نور البصيرة في زيادة، حتى يُرى على الوجه والجوارح، وعلى الكلام والأعمال، وعلى الأخلاق والصفات.
صاحبه متصل بالله، مستضيء بنور الوحي، مستنير بنور الإيمان، متزين بالسنن والآداب والأخلاق.
يميز به بين الحق والباطل.
والصادق والكاذب.
والطيب والخبيث.
ويميز به بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه من الأقوال، والأعمال، والأخلاق والأعيان.
وفي كل إنسان ثلاث قوى:
قوة البدن.
وقوة العقل.
وقوة القلب.
فقوة البدن يشترك فيها الإنسان مع الحيوان.
وقوة العقل يشترك فيها المسلم والكافر.
وقوة القلب خاصة بالمسلم، وهي مكان دعوة الرسل، حيث اجتهدوا على قلوب البشر، حتى امتلأت بتوحيده وعظمته ومحبته، والخوف منه، والتلذذ بعبادته وطاعته، والإيمان به.
فعلى المسلم أن يستفيد من هذه الطاقات، ويسخرها للدين لتصلح حاله وأحوال العالم من حوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦)} [الحديد: ١٦].
إن كل ما في الوجود مما سوى الله فهو فعل الله وخلقه.
فكل ذرة من الذرات.
وكل قطرة من القطرات.
وكل حركة من الحركات.
وكل مخلوق من المخلوقات.
كل ذلك فيه آيات وعجائب.
تظهر بها حكمة الله وقدرته.
وجلاله وعظمته.
وإحصاء ذلك غير ممكن.
والمخلوقات التي خلقها الله قسمان:
الأول: ما لا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها، فكم من الموجودات التي لا نعلمها، بل نسبة ما نعلمه إلى ما لا نعلمه كالقطرة بالنسبة للبحر، وقد قال سبحانه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)} [النحل: ٨].
الثاني: ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها، فيمكننا أن نتفكر في تفصيلها، ونهتدي إلى شيء من أسرارها.
وهي منقسمة إلى ما ندركه بحس البصر، وإلى ما ندركه بالخبر:
أما الذي لا ندركه بالبصر ولكن ندركه بالخبر فكالملائكة والأرواح.
والجن والشياطين.
والعرش والكرسي.
والجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب.
وما يجري في اليوم الآخر من العرض والحساب والموازين وغيرها.
وأحوال الأمم الماضية.
وأما ما ندركه بحس البصر فالسماء والأرض وما بينهما من المخلوقات.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ذلك.
فخلق السماء آية.
وجمالها آية أخرى.
وعلوها آية أخرى.
وعظمتها آية أخرى.
وفي السماء آيات وعبر، فالشمس آية، وإنارتها آية، وجريانها آية.
والقمر آية.
وإنارته آية.
وتغير أحواله آية.
وسيره آية.
وفي طلوع الشمس والقمر آية.
وفي غروبهما آية
وخلق النجوم آية.
وفي إنارتها آية.
وتوزيعها في السماء آية.
وفي سيرها آية، وفي الليل والنهار آيات بينات، وعبر وعظات: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦)} [نوح: ١٥، ١٦].
وفي الأرض آيات وعبر وعظات:
نباتات متنوعة.
وحيوانات مختلفة.
وأنهار وبحار.
وسهول وجبال.
وجواهر ومعادن.
وأزهار وثمار.
وحجارة ورمال.
فمن ينظر؟.
ومن يتفكر؟.
ومن يتدبر؟: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)} [ق: ٦ - ٨].
وما بين السماء والأرض آيات وعجائب:
سحب وغيوم.
ورعد وبرق.
وأمطار وثلوج.
وصواعق وشهب.
ورياح وعواصف.
وطيور وذرات.
وحرارة وبرودة.
وليل ونهار.
فهذه الأجناس في السموات والأرض وما بينهما، أصناف وأنواع لا يحصيها إلا الله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)} [الأعلى: ٢، ٣]
وجميع هذه المخلوقات مجال الفكر والتفكر.
والنظر والتدبر.
والاعتبار والاستبصار.
فلا تتحرك ذرة في السماء والأرض من ملك وإنسان.
وحيوان ونبات.
وماء وجماد.
ولا فلك ولا كوكب.
إلا والله تعالى هو محركها ومجريها.
وفي حركتها حكم وأسرار، وكل ذلك شاهد لله بالوحدانية، ودال على عظمته وجلاله، وحكمته وقدرته، وآلائه وإحسانه، وعظمة ملكه وسلطانه.
ففي خلق الإنسان من نطفة عجائب تدل على عظمة الخالق.
وفي خلق الحيوان وأصنافه وأنواعه وألوانه، آيات وعجائب تدل على عظمة المصور، وكمال قدرته.
ففي طيور الجو، وحيوانات البر، ودواب الأرض، وأسماك البحر، من العجائب ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وكلها تدل على عظمة خالقها، وقدرة مقدرها، وحكمة مصورها.
وفي خلق النمل والنحل وغيرها من صغار الحشرات ما يبهر العقول سواء كان في تكاثرها، أو بناء بيوتها، أو جمع غذائها، أو طباعها.
وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى.
وعجائب البحر كعجائب الأرض وما فيها، بل ما فيه من النبات والحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض.
فسبحان الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأعجب من ذلك كله ما هو أظهر من كل ظاهر، وهو قطرة الماء، هذا الجسم الرقيق السيال، متصل الأجزاء، كأنه شيء واحد، لطيف التركيب، سريع الاتصال والانفصال.
به حياة كل ما على وجه الأرض من نبات وحيوان كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)} [الأنبياء: ٣٠].
مختارات

