الآفة الثامنة والعشرون - الاحتقار أو الانهزام النفسي
والآفة الثامنة والعشرون التي يبتلى بها كثير من المسلمين، وكانت من بين أسباب كثير ما نعاني نحن المسلمين اليوم، إنما هي: " الاحتقار أو الانهزام النفسي ". وحتى يبرأ من هذه الآفة من ابتلى بها، ويبقى صحيحا معافى من سلمه الله - عز وجل - منها، فإننا سنتناولها من خلال هذه الجوانب: أولا: تعريف الاحتقار أو الانهزام النفسي الاحتقار لغة: والاحتقار لغة: الإذلال، والإهانة، والتصاغر، يقال: احتقره، حقره وحقر الشيء حقرا، وحقارة، فهو حقير: ذل، وهان، وصغر. () وفي الحديث: " إياكم ومحقرات الذنوب " (): صغائر، واحدتها: محقرة. والانهزام لغة: الانهزام لغة: الانكسار والتشقق، نقول: انهزم العدو: انكسرت شوكته، وشق صفه، وانتصر عليه، فهو منهزم، ومهزوم، والهزيمة في القتال: الكسر، والفل. () اصطلاحا: أما الاحتقار أو الانهزام النفسي في الاصطلاح، فهو: استصغار النفس الخيرة، واستذلالها، والاستهانة بها أو انكسارها أمام ما يمليه عليه أعداؤها من النفس الأمارة بالسوء، ومن شياطين الإنس والجن، ومن الدنيا بشدائدها، وامتحاناتها، ببريقها، وزخارفها وزيناتها، بصورة تشعرها أنها ليست أهلا لعمل أي بر أو معروف، حتى وإن كان هذا البر وذلك المعروف بسيطا أو يسيرا. ثانيا: بعض مظاهر الاحتقار أو الانهزام النفسي مع بيان حكمه في ميزان الإسلام وللاحتقار أو الانهزام النفسي صور يعرف بها، ومظاهر تدل عليه وأهم هذه الصور، وتلك المظاهر: 1 - القعود عن العمل لدين الله - عز وجل - من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومجاهدة الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، بدعوى أن الشر قد تفشى وانتشر، وأن المنكر قد استفحل وتمكن، ومهما عملنا فلن نغير شيئا، ولن نجني سوى التعب والمشقة. 2 - اعتزال المجتمع بل الهجرة إلى الشعاب والأودية ورءوس الجبال اعتمادا على الدعوى التي قدمنا، واحتجاجا بقوله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ". () 3 - الخضوع والانقياد والاستسلام للأهواء، وما يمليه شياطين الجن والإنس، والدنيا ببريقها وزخارفها، بدعوى عدم القدرة على المواجهة. 4 - الخوف من الباطل، والانقياد له في كل ما يقول، وما يفعل، بدعوى أنه يملك كل شيء، ونحن مهما أوتينا من قوة، ومن سلطان فلن نعمل شيئا، وبالتالي فلن نغير شيئا. 5 - رفض أي مسئولية قيادية حتى وإن كانت في أمر جزئي بسيط، بدعوى عدم الفقه في المسئوليات، بل عدم القدرة على ما تتطلبه هذه المسئوليات من أعباء، وتبعات، وهلم جرا. والاحتقار بالمعنى الذي ذكرنا من استصغار النفس، والاستهانة بها أمام دور الإنسان، بل المسلم ورسالته في هذه الأرض، قبيح مذموم نفى عنه الشارع الحكيم، إذ يقول الله - تبارك وتعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران). {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} (النساء: 104). {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} (محمد). {إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني} (البقرة: 150). {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين} (آل عمران). {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني} (المائدة: 3). {فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} (المائدة: 44).{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا}(الأحزاب). وإذ يقول صلى الله عليه وسلم: " لا يحقر أحدكم نفسه " قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: " يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله - عز وجل- له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا، وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى "، () " احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز... " الحديث. () وانطلاقا من نهي الشارع الحكيم عن الاحتقار أو الانهزام النفسي زكى يوسف الصديق عليه السلام نفسه، فقال: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (يوسف). يقول ابن عطية-رحمه الله: " وطلب يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام لرغبته في أن يقع العدل... فجائز للفاضل أن يعمل، وأن يطلب العمل إذا رأى ألا عوض عنه، وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره ". () ويقول ابن كثير- رحمه الله: " وفيه دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وان كان في يد الجائر أو الكافر ". () ويقول الألوسي -رحمه الله: " وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة، وان كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلا، وكان متعينا لذلك، وما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها "، وارد في غير ما ذكر ". () ومدح النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بقوله: " أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له... "، () " أنا سيد الناس يوم القيامة "، () " أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة "، () إلى آخر ما جاء عنه في هذا الشأن. ومدح عثمان رضي الله عنه نفسه بقوله:... ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفر بئر رومة فله الجنة "، فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: " من جهز جيش العسرة فله الجنة "، فجهزتها؟ قال: فصدقوه بما قال. () يقول ابن حجر في شرح هذا الحديث: " وفيه جواز تحدث الرجل بمناقبه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة، والمكاثرة، والعجب ". () واستأذن أبو موسى الأشعري على عائشة رضي الله عنها فأذنت له، فقال لها: يا أماه، أو يا أم المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني استحييك فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل ". () وقال ابن مسعود رضي الله عنه ثقة بنفسه، وتقديرا لها: " والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه ". () قال ابن حجر تعليقا على كلام ابن مسعود هذا: " وفي الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بما فيه من الفضيلة بقدر الحاجة، ويحمل ما ورد من ذم ذلك على من وقع ذلك منه فخرا أو إعجابا ". () وهؤلاء المشاهير علماء المسلمين ولا سيما المؤلفون ن منهم يثقون بأنفسهم فيمدحونها، حتى يقول الواحد منهم عن نفسه: " ما رأيت مثل نفسي " وهكذا. أما الاحتقار أو الانهزام النفسي أمام نعمة الله وعظمته، فمرغوب فيه محمود، وهو التواضع الذي مدحه الحق - تبارك وتعالى - في قوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان)، {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} (آل عمران)، وقال: {قال تالله إن كدت لترديني ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} (الصافات)، {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} (يوسف). ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز، من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ". () وانطلاقا من دعوة الشارع الحكيم إلى هضم النفس، وأنها لا تساوي شيئا في جنب عظمة الله، ونعمته،جاءت الأخبار عن السلف بهضم النفس، والتواضع لله، وعدم الترفع على عباده بحال، يقول بكير بن الأشج: إن عبد الله بن سلام خرج من حائط له بحزمة حطب يحملها، فلما أبصره الناس، قالوا: يا أبا يوسف، قد كان - يعني في ولدك، وعبيدك - من يكفيك هذا، قال: أردت أن أجرب قلبي هل ينكر هذا. () ويقول المبارك بن فضالة: إنه سمع الحسين يقول: يا ابن آدم، طأ الأرض بقدمك، فإنها عن قليل قبرك، وأنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. () وأثر عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام (ت 660 ه): أن أمراء المماليك الذين اشتراهم الملك نجم الدين أيوب لا زال حكم الرق مستصحبا عليهم لبيت مال المسلمين، وأنه لابد من تصحيح هذا الخطأ الشنيع، وذلك ببيعهم، وشرائهم، ثم عتقهم مرة ثانية. وكان من جملة هؤلاء نائب السلطنة، فغضب عليه لهذا الأمر لما فيه من إهانة بعد أن أصبحوا ذوي مناصب في الدولة، وقد استدعى نائب السلطنة الشيخ عز الدين فلم يجبه، فانزعج نائب السلطنة لذلك وقصد بيته مع جماعة لقتله، فخرج ولد الشيخ، فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فأخبر أباه، فما اكترث لذلك، ولا تغير، وقال: يا ولدي، أبوك أقل من يقتل في سبيل الله، وخرج الشيخ وهو مطمئن، فحين وقع بصره على النائب يبست يده ووقع السيف منها، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعوا له، وخضع لرأيه في البيع، وقال له: ففيم تصرف ثمننا؟ قال في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا، فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحدا واحدا في المزاد العلني، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير، ثم أعتقهم بعد ذلك، رحمه الله، ورضي عنه، () وعلى أثرها لقب الشيخ ببائع الملوك. وفحوى هذه القصة: احتقار الشيخ عز الدين نفسه أمام حماية دين الله ومنهجه، وهي من جانب آخر دليل على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من الثقة التامة بالنفس، وعدم احتقارها في مواجهة المنكر، ومجاهدة الباطل. ثالثا: أسباب الاحتقار أو الانهزام النفسي وللاحتقار أو الانهزام النفسي أسباب تؤدي إليه، وبواعث توقع فيه، وأهم هذه الأسباب، وتلك البواعث: 1 - إهمال المرء من التعويد على المسؤولية بل من التشجيع: فقد يكون إهمال المرء من التعويد على المسئولية، بل من التشجيع من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار، والانهزام النفسي؛ ذلك أن التعويد على المسئولية، بل التشجيع يمنح المرء ثقة بنفسه، واحتراما وتقديرا لها، بحيث يوقن أنه ليس في الدنيا ما يكون صعبا، أو بعيد المنال، وحين يهمل المرء من التعويد على المسئولية، ومن التشجيع يوسوس له الشياطين، وتسول له النفس الأمارة بالسوء أنه ما أهمل بهذه الصورة إلا لأنه لا يحسن أو لا يجيد شيئا، فيفقد الثقة بنفسه، بل يأخذ في احتكارها، ويكون الانهزام النفسي. ولا جرم أن نشير هنا إلى أننا لا نعني بالمسئولية القيادة، بقدر ما نعني بها التكليف بما يوجب التبعة، والمساءلة، وهذا الذي نعنيه من العموم بحيث يشمل الحياتين جميعا الدنيا والآخرة، فتكليف المرء بالاهتمام ببدنه، وروحه، وعقله، وخلقه، ودعوة الآخرين، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومجاهدة الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، هذه وغيرها مسئولية. وكذلك لا نعني بالتشجيع الغناء أو المدح دون قيود أو ضوابط، بل لابد أن يكون محفوفا بالقيود، والضوابط الشرعية، وأهمها: الخلو من الكذب والمبالغة، وأن يكون مبنيا على الظن أو التخمين الغالب لا على اليقين والقطع، فذلك مرده إلى الله - تبارك وتعالى - بأن يقول: أحسب فلانا كذا، والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا، وخير ما يشهد بصحة هذا السبب حركة التاريخ والواقع: أما حركة التاريخ: فقد طالعتنا من قديم: أن آباءنا وأجدادنا ولا سيما عرب الجزيرة العربية ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الثقة بالنفس، والعزة والإباء والشمم، تلك التي عرفوا بها قبل الإسلام إلا بالتعويد على المسئولية منذ نعومة أظفارهم بل والتشجيع المستمر، وجاء الإسلام وأكد على هذا، بل حوله من مجرد أن يكون عادة وعرفا إلى أن يكون شرعة ودينا، فقال الحق - سبحانه: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة)، {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} (الحجر). وعرفنا من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه عمل في صباه في رعي الغنم، وفي التجارة، وساعد في تجديد الكعبة، وشارك في حرب الفجار، وحلف الفضول، وأن هذه الأعمال أسهمت في إعداده وتهيئته لحمل أمانة الدعوة، والبلاغ، والجهاد بعد ذلك. وقد أفتى الحنفية بأن للأب أن يؤاجر ابنه الصغير في عمل من الأعمال... من باب النظر-أي رعاية المصالح - ولأن ذلك من باب الأديب والتهذيب والرياضة، ومثل الأب في ذلك الوصي، والقا ضي. () ولعل سندهم في هذا ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، حتى إذا رأيت أني قد فرغت من خدمتي، قلت: يقيل - أي ينام بعد الظهر- ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى صبيان يلعبون قال: فجئت أنظر إلى لعبهم، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على الصبيان وهم يلعبون، قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى حاجة له، فذهبت فيها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيء - أي ظل - حتى أتيته، واحتبست عن أمي عن الإتيان الذي كنت أتيها فيه، فلما أتيتها قالت: ما حسبك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له، قالت: وما هي؟ قلت: هو سر، قالت: فاحفظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، قال ثابت - راوي الحديث عن أنس: قال لي أنس: لو حدثت به أحدا من الناس -أو لو كنت محدثا به - لحدثتك به يا ثابت. () وأما الواقع: فهو ما نرى وما نشاهد من أن أبناء البادية والقرى غالبا ما يكونون أكثر ثقة بأنفسهم من أبناء المدينة أو الحاضرة؛ نظرا لأن قسوة البادية والقرية أوجبت عليهم أن يدربوا على المسئولية في حال الصبا، والأولاد في الغرب الآن يوضعون على المحك، وهم لا يزالون صغارا حتى إذا ما شبوا كان منهم القادة، والمبتكرون، والمخترعون، وهكذا فإن التعويد على المسئولية بل التشجيع يولد الثقة بالنفس، وإهمال ذلك ينشأ عنه الاحتقار أو الانهزام النفسي. 2 - انتقاص الآخرين وتحقيرهم للمرء على الدوام: وقد يكون انتقاص الآخرين وتحقيرهم للمرء على الدوام من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار أو الانهزام النفسي؛ ذلك أن المرء إذا رأى كل من حوله لا يستحسنون منه شيئا، بل يلاحقونه على الدوام بالانتقاص، والاحتقار، والفشل، فانه غالبا ما يتأثر بذلك، لا سيما إذا كان في المراحل الأولى من حياته أو كان مكلفا بالأمر لأول مرة، وتكون العاقبة أن يصاب بالإحباط، والاحتقار أو الانهزام النفسي. ولعل هذا من بين الأسرار التي من أجلها نهى الشارع الحكيم أن يحقر المسلم أخاه المسلم أو ينال منه بحال، إذ يقول الحق - تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (الحجرات: 11). وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم... " الحديث. () 3 - العيش في وسط معروف بالانهزام واحتقار النفس: وقد يكون عيش المرء في وسط معروف بالانهزام واحتقار النفس من بين الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الاحتقار، والانهزام النفسي، أعم من أن يكون هذا الوسط قريبا وهو البيت، أو بعيدا وهو المجتمع، ذلك أن المرء شديد التأثر بالوسط الذي يعيش فيه، وعليه فإذا كان هذا الوسط محتقر لنفسه أو منهزما أمامها سرت عداوة إلى الآخرين، وأصيبوا هم كذلك بالاحتقار والانهزام النفسي، وقد نبهنا غير مرة في هذه الآفات إلى ضرورة طهارة ونظافة الوسط الذي يعيش فيه المرء ليسلم من شره، بل ليتداوى إن كانت عدوى الأوساط العفنة قد سرت إليه، وأفسدته. 4 - تمكن حب الدنيا من القلوب: وقد يكون تمكن حب الدنيا من القلوب من بين الأسباب المؤدية الاحتقار أو الانهزام النفسي، ذلك أن حب الدنيا إذا تمكن من القلوب حمل على الوقوع في المعاصي والسيئات لا محالة، وأقل هذه المعاصي وتلك السيئات، الشح أو البخل بهذه الدنيا. وحين يقع المرء في المعاصي والسيئات على الدوام يسود قلبه، ويصير عليه ران، وربما انتهت الحال إلى قفل هذا القلب، بل الختم عليه والعياذ بالله، ويظهر أثر ذلك في أمور كثيرة أهمها: القلق، والخوف، والاضطراب النفسي، وكذلك الاحتقار والانهزام النفسي. وواقع العصاة اليوم خير ما يشهد بذلك، ولهذا حذر الشارع الحكيم من الوقوع في المعاصي والسيئات، وأرشد من وقع في المعاصي والسيئات - لسبب أو لآخر - أن يبادر بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله. فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون} (المجادلة). {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} (النساء). {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} (الزمر). {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (النساء). {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} (الجن). {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين}(الزمر). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفراة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه)، فبايعناه على ذلك. () 5 - دوام إخفاق المرء وفشله في كل ما يقصد: وقد يكون دوام إخفاق المرء وفشله في كل ما يقصد من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار، والانهزام النفسي؛ ذلك أن للنجاح والتوفيق سننا لابد من رعايتها، وحين تهمل أو تهدر هذه السنن كلا يكون دوام الإخفاق والفشل، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، وحين يرى المرء نفسه في إخفاق وفشل على الدوام يسقط في يده، وربما انتهى به ذلك إلى احتقار نفسه، وهزيمته أمامها، وخير ما يشهد بذلك واقعنا نحن المسلمين اليوم في صراعنا مع أعدائنا. ومن أجل حماية المسلم من أن تنتهي به الأمور إلى هذا الاحتقار وذلك الانهزام النفسي جاءت دعوة الشارع الحكيم إلى ضرورة الإعداد، والإتقان، والحذر أو أخذ الأهبة والاستعداد في الأمور البسيطة قبل المركبة، والسهلة قبل الصعبة. قال تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} (الأنفال). {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}(البقرة). {ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} (النساء). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء...) الحديث. () " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ". () 6 - منافسة ذوي الجد بالقول دون العمل: وقد تكون منافسة ذوي الجد بالقول دون العمل من بين الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الاحتقار أو الانهزام النفسي، ذلك أن الحياة دنيوية كانت أو أخروية إنما تبنى أساسا على المنافسة والمسابقة، وقد يكون أحد الطرفين جادا يأخذ الأمور بحزم وعزم وقوة، وينتفع بكل ما لديه من طاقات وإمكانات، ولا تضيع منه لحظة واحدة هباء أو بددا، ويكون الآخر لاهيا لاعبا لا هم له سوى الكلام والقول أما العمل فهو بمعزل عنه تماما، وبمرور الزمان يجد هذا الأخير نفسه أمام الأول عدما أو في حكم العدم، وحينئذ لا يملك إلا أن يكون فريسة للاحتقار أو الانهزام النفسي. ولعل واقعنا نحن المسلمين اليوم أمام واقع أعدائنا خير ما يشهد بصحة ما نقول، إذ عمل هؤلاء وما زالوا يعملون بالليل والنهار، منتفعين بكل ما منحهم الله من طاقات وإمكانات ومواهب، وقعدنا نحن المسلمين، بل غرقنا في اللهو واللعب حتى سبقونا وتقدموا علينا، بل وأمسكوا بخناقنا، وضيقوا الخناق حول أعناقنا، ولما انتبهنا وأفقنا وأدركنا حقيقة هذا الواقع الأليم المرير واجهناه بالقول دون العمل، وحينئذ لم نستطع السباق أو اللحاق، وصرنا فريسة الاحتقار والانهزام النفسي، وقد جاء عن علي رضي الله عنه خبر فيه راو مجهول إلا أن معناه صحيح موافق لضرورة مواجهة الأعداء بالعمل لا بالقول، وإلا ركب أعناقنا هؤلاء، وكان الاحتلال أو ما يعرف الآن بالاستعمار. إذ أخرج ابن أبي شيبة في: المصنف من حديث الأعمش عن شهر، عن رجل قال: " كنت عريفا في زمن علي، فأمرنا بأمر فقال: أفعلتم ما أمرتكم؟ قلنا: لا، قال: والله لتفعلن ما تؤمرون به، أو لتركبن أعناقكم اليهود والنصارى ". () 7 - الكبت أو الاستبداد والقهر: وقد يكون الكبت أو الاستبداد والقهر من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار والانهزام النفسي، ذلك أن المرء إذا حيل بينه وبين التعبير عما بداخله، وفرض عليه على سبيل الاستبداد والقهر ما لا يقره ولا يرضاه، واستمرت الحال هكذا دون انفراج أو تنفيس أصابه اليأس والقنوط ثم الإحباط والاحتقار والانهزام النفسي. ومن أجل الوقاية من الوقوع في ذلك منع الشارع الحكيم القهر، فلا إكراه في الدين، ولا إكراه في تزويج المرأة، ولا إمامة لحاكم أو أمير، أو ذي سلطان إلا بمشورة وبيعة... وهكذا. قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256). {وشاورهم في الأمر} (آل عمران: 159). {وأمرهم شورى بينهم}(الشورى: 38). وعن خنساء بنت خذام الأنصارية: أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فرد نكاحها. () 8 - عدم الثقة بالله وبمنهجه: وقد يكون عدم الثقة بالله وبمنهجه، من بين الأسباب التي توقع في الاحتقار والانهزام النفسي، ذلك أنه سبحانه ذو الكمال والجلال، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وقد امتن على عباده بمنهاج معصوم فيه سعادة الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه:{ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس). ووعد بإعلاء شأن هذا المنهج، والتمكين له في العالمين، فقال سبحانه: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور). وطلب سبحانه منهم أن يصدقوا ذلك تصديقا لا شك فيه ولا ريب أبدا، فقال:{فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير} (التغابن). ومن شك في الله وفي منهجه، ولم يثق بهما وكله الله إلى نفسه بحيث يبقى وحيدا أمام حزب الشيطان، وحينئذ لا يسعه إلا أن ينهار وأن ينهزم نفسيا، وربما انقلب فصار من حزب هؤلاء الخاسرين. 9 - عدم إدراك نعمة الله في النفس وفي الكون: وقد يكون عدم إدراك نعمة الله في النفس وفي الكون، من بين الأسباب التي توقع في الاحتقار والانهزام النفسي؛ ذلك أن الله قد امتن علينا في أنفسنا بنعم لا تعد ولا تحصى من السمع، والبصر، والفؤاد، واعتدال القامة، والأيدي، والأرجل، واللسان، والشفتين، ومن الأعضاء الداخلية ما لا يعلمه إلا هو، كما امتن علينا بمثلها في الكون المحيط بنا من الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم، والشجر والدواب، والأنهار والبحار والهواء، والأرض والسماء، وهلم جرا فقال سبحانه:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} (النحل). {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} (البلد). {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون} (النحل). {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات). {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} (لقمان: 20). {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم: 34، النحل: 18). ومن غفل عن هذه النعم، أو لم يدركها إدراكا حقيقيا، ورأى انتفاع الأعداد واستثمارهم لها، فإنه يصاب لا محالة باليأس والإحباط أو الانهزام النفسي. 10 - الغفلة عن العواقب المترتبة على الاحتقار أو الانهزام النفسي: وقد تكون الغفلة عن العواقب المترتبة على الاحتقار أو الانهزام النفسي من بين الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الاحتقار أو الانهزام النفسي؛ إذ من غفل عن العواقب الضارة، والآثار المهلكة لأمر ما، وقع في هذا الأمر لا محالة، ومن أجل هذا جاءت طائفة كبيرة من المنهجات والمحظورات مقرونة بعواقبها وآثارها، كي يخاف الناس، ويحذروا، بل ويتجنبوا الوقوع في هذه المنهيات، وتلك المحظورات. 11 - الوقوع في المعاصي والسيئات مع الإصرار وإهمال التوبة وقد يكون الوقوع في المعاصي والسيئات مع الإصرار وإهمال التوبة من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار أو الانهزام النفسي ؛ ذلك أن للمعصية مع الإصرار عليها وإهمال التوبة عواقب ضارة في الدنيا والآخرة. ولعل من أبرز العواقب الدنيوية الابتلاء بالاحتقار أو الانهزام النفسي، وصدق الله إذ يقول: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى). {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} (الحج). 12 - قياس واقع الأعداء اليوم بحاضرنا مع الغفلة عن ماضينا: وقد يكون قياس واقع الأعداء واقع اليوم بحاضرنا مع الغفلة عن ماضينا من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار، والانهزام أم النفسي ؛ ذلك أن واقع الأعداء اليوم بالقياس إلى حاضرنا ينطق بأنهم يتربعون على عرش البشرية، ويوجهونها كما يريدون، وأننا لا نعدو أن نكون ذيولا أو أذنابا لهم، ولكن هذا الواقع يتغير، ولا يتجاوز أن يكون صفرا بالإضافة إلى ماضينا المشرق الزاهر الذي يصوره الشاعر بقوله: ملكنــا هذه الدنيا قــرونا
----------------
وأخضعـها جـدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضــياء *** فمــا نسي الزمان ولا نسينا حملناها سيوفا لامعــــات *** غــداة الروع تأبى أن تلينا إذا خرجت من الأغماد يومـا *** رأيـت الهون والفتـح المبينا وكـنا حين يرمـينا أنــاس *** نؤدبهم أبــاة قــادريـنا وكـنا حـين يأخـذنـا ولي *** بطغيــان ندوس له الجـبينا تفـيض قلوبنا بالهـدي بأسـا *** فما نعـصي عن الظلم الجفونا بنينا حقبة في الأرض ملكــا *** يـدعـمه شباب طـامحونا شباب ذللوا سـبل المعــالي *** وما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتا كريـما *** طـاب في الدنيا غـصـونا هم وردوا الحياض مباركـات *** فسـالت عندهم ماء معـينا إذا شهدوا الوغى كانوا كمـاة *** يـدكون المعاقل والحصـونا وإن جـن المسـاء فلا تراهـم *** من الإشفـاق إلا ساجـدينا شـباب لم تحطـمـه الليـالي *** ولم يسلم إلى الخصم العـرينا ولم تشهـدهم الأقداح يومـا *** وقد ملأوا نواديهم مـجـونا عـرفـوا الأغـاني مائعـات *** ولكـن العلا صنعت لـحونا وقد دانوا بأعظمهم نـضـالا *** وعلما، لا بأجـرئهم عيـونا فيتحدون أخـلاقـا عــذابا *** ويـأتلفون مجتمـعـا رزينـا فما عرف الخلاعـة في بنـات *** ولا عرف التخنث في بنيـنـا ولم يتشدقوا بقـشـور عـلـم *** ولم يتقيبوا في الملــحــدينا ولم يتبـجـحـوا كـل أمـر *** خطير، كي يقال مثقـفـونـا كـذلك أخـرج الإســلام *** قومي شبابا مخلصا حـرا أمينا وعلمه الكـرامة كيـف تبنى *** فيأبى أن يقـيـد أو يهـونا () رابعا: آثارا لاحتقار أو الانهزام النفسي: وللاحتقار أو الانهزام النفسي آثار ضارة وعواقب مهلكة، سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي: أ - على العاملين: أما على العاملين فكثيرة، وأهمها: 1 - مداهنة بل الارتماء في أحضان الظالمين: ذلك أن من ابتلى بالاحتقار أو الانهزام النفسي يتصور أن الظالمين والجبارين بمقدورهم أن يعملوا له شيئا، فيداهنهم بل ويرتمي في أحضانهم، على نحو ما نشهده في عالم المسلمين اليوم من مداهنة وانحناء قيادات، وتمريغها لوجهها وأنفها في التراب لا لشيء إلا الخوف والرجاء من هؤلاء الظالمين المتجبرين، وأولئك في حقيقة الحال لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فضلا عن أن يملكوا ذلك لغيرهم من الخلق. 2 - الغزو في النفس، وفى الحرمات: ذلك أن الاحتقار أو الانهزام النفسي يفتح الطريق أمام الماكرين والمتربصين لغزو هؤلاء المحتقرين أو المنهزمين نفسيا، في أنفسهم وفي حرماتهم، ومقدساتهم من دين، ونسل، وعرض، ومال، وأوطان، على نحو ما يصنعه أعداؤنا بنا اليوم في فلسطين، وفي غيرها من كل بقاع العالم، وإذا غزى الإنسان في نفسه، وفي حرماته فماذا بقي له، وما قيمة الحياة بعد ذلك؟ 3 - زيادة الرصيد من الإثم: وذلك أنه باحتقاره أو انهزامه نفسيا قد فتح الباب أمام كثيرين ممن لديهم استعداد للوقوع في مثل هذه الآفة كي يحاكوه، ويصنعوا مثله لا سيما إذا كان هو في موقع الأسوة والقدوة ويتحمل هو إثم هؤلاء جميعا انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: "... ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ". () 4 - الخسران المبين في الآخرة ما بقى الإصرار ولم تكن توبة: إذ هو بتضييعه لنفسه ولغيره، قد حمل وزرا وإثما عظيما ويلقي ربه بهذا كله، ولا إقلاع ولا توبة فتكون النار والعياذ بالله، وهذا هو الخسران المبين حقا، إلا أن تتداركه رحمة الله، قال تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} (الزمر). ب - على العمل الإسلامي: وأما على العمل الإسلامي فكثيرة أيضا، وأهمها: 1 - قلة كسب الأنصار والمؤيدين: ذلك أن الناس يتأثرون ويقتدون بالأقوياء الواثقين من أنفسهم وبربهم ومناهجهم، أما المحتقرون أو المنهزمون نفسيا فإن الناس لا يأبهون بهم، ولا يستجيبون لهم، وبذلك يقل حجم الأنصار والمؤيدين. 2 - الفرقة والتمزق: إذ وجود الاحتقار أو الانهزام النفسي في داخل الصف يحدث انقساما في هذا الصف ما بين مزيد نصير وظهير، وما بين معارض منكر وبعيد، الأمر الذي يفتح الباب أمام المتربصين من أعداء الله للولوج، والإطباق والتطويق. 3 - كثرة التكاليف وطول الطريق: وهذا شيء بدهي ونتيجة حتمية طبيعية لقلة كسب الأنصار والمؤيدين، ولشيوع الفرقة والتمزق. خامسا: علاج الاحتقار أو الانهزام النفسي: وفي ضوء ما قدمنا من أسباب وبواعث للاحتقار أو الانهزام النفسي، يمكن وصف العلاج بل الوقاية، وذلك على هذا النحو: 1 - شغل أوقات الفراغ، والقضاء على البطالة بكل ما هو نافع ومفيد، وميادين الحياة باتساعها وتنوعها تجعل لكل واحد في الناس وظيفة وعملا، ومن لا يصلح لهذا العمل يصلح لذاك، وهكذا كانت سيرته مع أصحابه، لا يدعهم في بطالة أو فارغين من العمل، ويحرص أن يكون كل واحد في العمل الذي يتناسب مع جهده، وطاقاته، وإمكاناته، وبهذا حماهم من الاحتقار أو الانهزام النفسي. 2 - تجنب انتقاص الآخرين، وتحقيرهم ما أمكن، كي نغلق الباب بذلك في وجه من يسولون أو يزينون للمرء الاحتقار أو الانهزام النفسي. 3 - الانسلاخ من الوسط المعروف بالاحتقار والانهزام النفسي، ثم الارتماء بين الوسط المعروف بالقوة، والشجاعة، والثقة بالله، وبمنهجه، وبرسوله، وبالنفس، فإن ذلك من شأنه، أن يعين على التخلص، بل الوقاية من الاحتقار أو الانهزام النفسي. 4 - العمل بكل وسيلة ممكنة على إخراج حب الدنيا من القلوب ولا بأس أن تصير هذه الدنيا في اليد، ما دامت من حلال، وما دامت بعزة نفس، وبغير تكالب، وما دام تعاطيها وسطا بين الإسراف والتقتير، ولا يضيع حق الله فيها، فإن المرء إذا نجح مع نفسه في هذا الباب، سهل عليه التخلص بل الوقاية من الاحتقار أو الانهزام النفسي. 5 - مواجهة من يعملون على إضعافنا والنيل منا، بالعمل الدؤوب مع الإتقان والجد تجنبا للفشل والإخفاق من ناحية، ومقابلة للوسيلة العملية المتقنة عند هؤلاء بمثلها من ناحية أخرى. 6 - منح الناس حقهم في التعبير عن آرائهم، وعما بداخلهم، وتقديم ذلك على الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، فإن هذا من شأنه أن يقضي على الاحتقار أو الانهزام النفسي، وربما أسهم في غرس الثقة في النفوس من جديد، وما ذلك على الله بعزيز. 7 - التعرف عن قرب على الله، وعلى رسوله، وعلى منهجه، بدوام النظر في آيات الله المنظورة، والمسطورة، فإن هذا من شأنه أن يزرع الثقة في النفوس، بعد أن يخلصها من الاحتقار أو الانهزام النفسي. 8 - استشعار نعمة الله في الكون، وفي النفس الظاهر منها والباطن، الدقيق منها والجليل، والقرآن الكريم يقودنا عمليا إلى ما ينبغي أن نستشعره ونبصره من هذه النعم، بل يقودنا إلى الثمرة المرجوة من وراء ذلك، وهي معرفة الله، والثقة به، وبمنهجه، والنزول على حكم هذا المنهج في كل شيء عن طواعية ورضا. 9- الاحتراز من المعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، مع الحرص على الإنابة، والتوبة عند اقتراف شيء منها، فإن هذا من شأنه أن يطهر النفس، ويزكيها، ويمنحها الثقة والقوة. 10 - دوام النظر في قصص النبيين، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم واتباعهم من الدعاة والمجاهدين، وحسبنا قصة موسى عليه السلام حين خرج من مصر ومعه قومه من بني إسرائيل وتبعهم فرعون وقومه وبوغتوا بالبحر، وأصبحوا محصورين بين البحر، وبين العدو، حتى قال قائلهم: إنا لمدركون، ولكن موسى بقي قويا ثابتا بتثبيت الله له، معلنا أن الله لن يتركه، ولن يتخلى عنه لحظة واحدة، وصدق الله ما أعلنه حين قال: {فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين} (الشعراء). وبقيت محلا للعظة والعبرة إلى يومنا هذا وحتى قيام الساعة، {إن في ذلك لآية} (الشعراء). وحسبنا أيضا موقفه صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة حين قال الصديق: يا نبي الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا. فرد عليه قائلا: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا، وصدق الله ذلك في قوله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} (التوبة). وموقفه كذلك من سراقة بن مالك يوم الهجرة حين قال له: " هل لك أن تكتم عني، وأعدك سواري كسرى وقيصر؟ ". وقديما لما قدم ربعي بن عامر في بساطته - لباسا ومركبا - على الفرس يريد الدخول على رستم، حين طلب رجلا يعرف منه ماذا يريد المسلمون، دخل في سلاحه يدوس بفرسه البسط إلى أن انتهى إلى آخرها ونزل عنها وربطها بوسادتين، وأراد الدخول على رستم، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال - في عزة وإباء -: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد، وإلا رجعت، فأخبروا رستم، فقال: ائذنوا له، هل هو إلا رجل واحد؟ فأقبل يتوكأ على رمحه حتى خرق النمارق والبسط، فلما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه، فكلمه، فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى، فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه، وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحب إليكم؟ يوما، أو يومين، قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا، ورؤساء قومنا، فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك، وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال رستم: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم، فاجتمع رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم، لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام، والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب. () وما كان ربعي بن عامر فريدا في هذه العزة والقوة النفسية، بل كان كل الصحابة هكذا، وتوارثها المسلمون كابرا عن كابر، حتى كانت عصور الضعف والانحطاط، فتغيرت الصورة، وتبدل الموقف، وجاءت الحركة الإسلامية، وإذا العزة تبعث من جديد، وإذ القوة النفسية هي الأصل والأساس في الانتماء لهذه الحركة. جاء في مذكرات الدعوة والداعية قول واضعها، ومشيد أركانها: تحت عنوان: " نماذج من تصرفات الرعيل الأول ": " كان هؤلاء الإخوة مثلا رائعا، ونماذج طيبة من التمسك بأحكام الإسلام " الحنيف في كل تصرفاتهم، والتأثر بأخلاقه، ومشاعره فيما يصدر عنهم. من قول أو عمل، سواء أكان ذلك مع أنفسهم، أم مع غيرهم من الناس استدعى المسيو سولنت باشمهندس القنال - يعنى قناة السويس بمصر - ورئيس قسم السكسيكون: الأخ حافظ عبد الحميد-أحد الستة الأول الذين كانوا نواة الحركة الإسلامية في مصر - في ذي القعدة (1347 ه مارس 1928 م) ليصلح له بعض أدوات النجارة في منزله، وسأله عما يطلب من أجر، فقال: 130 قرشا (بالعملة المصرية)، فقال المسيو سولنت - بالعربي: أنت حرامي، فتمالك الأخ نفسه، وقال له بكل هدوء: ولماذا؟ فقال: لأنك تأخذ أكثر من حقك، فقال له: لن آخذ منك شيئا، ومع ذلك، فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرؤوسيك، فإن رأى أنني طلبت منك أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل مجانا، وإن رأى أنني طلبت ما يصح أن أطلب فأسامحك في الزيادة. واستدعى الرجل فعلا مهندسا، وسأله، فقدر أن العمل يستوجب 205 قرش، فعرفه المسيو سولنت، وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل، فقال له: سأفعل، ولكنك أهنتني، فعليك أن تعتذر، وأن تسحب كلمتك، فاستشاط الرجل غضبا، وغلبه الطابع الفرنسي الجاد، وأخذته العزة بالإثم، وقال: تريد أن أعتذر لك، ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه - يقصد حاكم مصر آنذاك - ما اعتذرت له، فقال حافظ على هدوء أيضا: وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولنت، فأنت في بلد الملك فؤاد، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام، وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام. فتركه، وأخذ يتمشى في البهو الفسيح، ويداه في جيب بنطلونه، ووضع حافظ عدته، وجلس على كرسي، واتكأ على منضدة، وسادت فترة هدوء لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو الثائر الحائر، وبعد قليل، تقدم من حافظ، وقال له: افرض أنني لم أعتذر إليك فماذا تفعل؟ فقال: الأمر هين، سأكتب تقريرا إلى قنصلكم هنا، وإلى سفارتكم أولا، ثم إلى مجلس إدارة قناة السويس بباريس، ثم الجرائد الفرنسية المحلية والأجنبية، ثم أتراقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس، فأشكوك إليه، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك، استطعت أن أهينك في الشارع، وعلى ملأ من الناس، وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد، ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة، ولكني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريق. فقال الرجل: يظهر أنني أتكلم مع " أفوكاتو- أي محام - لا نجار ". ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس، فكيف تتصور أن أعتذر لك؟ فقال حافظ: وألا تعلم أن قناة السويس في وطني، لا في وطنك، وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة، وستنتهي، ثم تعود إلينا، فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا، فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟ وانصرف الرجل إلى مشيته الأولى. وبعد فترة عاد مرة ثانية، وعلى وجهه أمارات الثائر، وطرق المنضدة بيده في عنف مرات، وهو يقول: أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي، فقام الأخ حافظ بكل هدوء، وقال: متشكر يا مسيو سولنت، وزاول عمله حتى أتمه. وبعد الانتهاء أعطاه المسيو سولنت 150 قرشا، فأخذ منها 135 قرشا ورد له العشرين، فقال له: خذها بقشيشا- أي إكراما- فقال: لا، لا، حتى لا آخذ أكثر من حقي، فأكون " حرامي "، فدهش الرجل، وقال: إني مستغرب لماذا لا يكون الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت: " فاميلي محمد ". فقال حافظ: يا مسيو سولنت، كل المسلمين " فاميلي محمد " ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات، وقلدوهم ففسدت أخلاقهم، فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا، قائلا: متشكر، متشكر، كتر خيرك، وفيها الإذن بالانصراف). () وقال تحت عنوان: " الدعوة في جباسات البلاح ": " اتصل بعض عمال الجباسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية، فنقلوا عنه الفكرة إلى إخوانهم، ودعيت إلى زيارة الجباسات، وهناك بايعت الإخوان على الدعوة، فكانت هذه البيعة نواة الفكر في هذا المكان النافي. وبعد قليل طلب العمال إلى الشركة أن تبني لهم مسجدا، إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل، وفعلا استجابت الشركة لمطلبهم، وبنى المسجد وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية انتداب أخ من العلماء يقوم بالأمانة والتدريس. فانتدب لهذه المهمة فضيلة الأخ المفضال الأستاذ محمد فرغلي - المدرس بمعهد حراء آنذاك (أحد الذين أعدتهم ثورة يوليو المباركة في مصر عام 1954 م بعد حادثة المنشية الملفقة). وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح، و تسلم المسجد، وأعد له سكنا خاص بجواره، ووصل روحه القوي المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين، فلم تمض عدة أسابيع وجيزة حتى ارتفع مستواهم الفكري، والنفساني، والاجتماعي ارتفاعا عجيبا. لقد أدركوا قيمة أنفسهم، وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة، وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهمالخوف، والذل، والضعف، والوهن، واعتزوا بالإيمان بالله، وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة، خلافة الله في أرضه " فجدوا في عملهم اقتداء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ". ثم عفوا عما ليس لهم، فلم تأسرهم المطامع التافهة، ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة، وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق، لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية، أو لفظة جافية، أو مظهرا من مظاهر التحقير، والاستصغار، كما كان شأنهم من قبل. وتجمعوا على الأخوة، واتحدوا على الحب، والجد والأمانة، ويظهر أن هذه السياسة لم تعجب الرؤساء، وقرروا أنه إذا استمر الحال على ذلك ستكون السلطة كلها لهذا الشيخ، ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يكبح جماحه، وجماح العمال. ظن الرؤساء هذا في الشركة، وفكروا في إقصاء هذا الشيخ القوي الشكيمة عن العمل، وأرسل إليه الرئيس المباشر، فلما توجه إليه قال له: إن المدير أخبرني بأن الشركة قد استغنت عن خدماتك، وأنها تفكر في انتداب أحد العمال للقيام بعملكم في المسجد، وهذا حسابكم إلى اليوم حسب أمر المدير. فكان جواب الشيخ له بكل هدوء: ما كنت أظن يا مسيو فرانسوا أنني موظف بشركة جباسات البلاح، ولو كنت أعلم هذا ما قبلت العمل معها، ولكني أعلم أنني موظف من قبل الإخوان المسلمين بالإسماعيلية، وأتقاضى مرتبي منهم محولا عليكم، وأنا متعاقد معهم لا معكم على هذا الوضع، وأنا لا أقبل منك مرتبا، ولا حسابا، ولا أترك عملي في المسجد، ولا بالقوة، إلا إذا أمرني بذلك رئيس الجمعية التي انتدبتني هنا، وهو أمامكم في الإسماعيلية، فاتفقوا معه كما تريدون، واستأذن، وانصرف، وسقط في يد إدارة الشركة، وصبرت أياما، لعل الشيخ يطلب منها مرتبه، ولكنه كان قد اتصل بي في الإسماعيلية، فأوصيته بالتمسك بموقفه، وألا يدع مكانه بحال، وحجته معقوله، ولا شيء لهم عنده. لجأت الشركة إلى الإدارة، واتصل مديرها المسيو مانيو بمحافظ القنال الذي اتصل بدوره بالمأمور بالإسماعيلية، وأوصاه أن يقوم على رأس قوة لعلاج الموقف، وحضر المأمور بقوته، وجلس في مكتب المدير. وأرسل في طلب الشيخ الذي اعتصم بالمسجد، وأجاب الرسول: لا حاجة لي عند المأمور، ولا عند المدير، وعملي بالمسجد، فإذا كان لأحدهما حاجة فليحضر لي، وعلى هذا فقد حضر المأمور إلى الشيخ، وأخذ يطلب إليه أن يستجيب لمطالب المدير، ويترك العمل ويعود إلى الإسماعيلية. فأجاب بمثل ما تقدم، وقال له: تستطيع أن تأتيني من الإسماعيلية بكلمة واحدة في خطاب، فأنصرف، ولكنك إذا أردت استخدام القوة، فلك أن تفعل ما تشاء، ولكني لن أخرج من هنا إلا جثة لاحراك بها، ووصل النبأ إلى العمال، فتركوا العمل في لحظة واحدة، وأقبلوا متجمهرين صاخبين، وخشى المأمور العاقبة، فترك الموقف، وعاد إلى الإسماعيلية، واتصل بي للتفاهم على الحل. ولكني اعتذرت له بأنني مضطر إلى التفكير في الأمر، وعقد مجلس إدارة الجمعية للنظر، ثم أجيبه بعد ذلك، وفي هذه الأثناء يؤسفني أن أقول: إنني حضرت إلى القاهرة لمقابلة العضو المصري الوحيد في مجلس إدارة الشركة، فوجدت منه كل إعراض عن مصالح العمال، وكل انحياز إلى آراء الشركة ومديرها، وكل تجرد من أي عاطفة فيها معني الغيرة الوطنية، قابلت بعد ذلك مدير الشركة، وسألته عما ينقمه من فضيلة الشيخ، فلم أجد عنده إلا أنهم يريدون شخصا يستسلم لمطالبهم، وكان من كلامه: إنني صديق لكثير من زعماء المسلمين، ولقد قضيت في الجزائر عشرين سنة، ولكني لم أجد منهم أحدا كهذا الشيخ الذي ينفذ علينا أحكاما عسكرية، كأنه جنرال تماما، فناقشته في هذا الكلام وأفهمته أنه مخطئ وأن الشركات تقسوا على العمال، وتنقص من حقوقهم وتستصغر إنسانيتهم، وتبخل عليهم، وتقتر في أجورهم، في الوقت الذي يتضاعف ربحها، ويتكدس، وأن من الواجب علاج هذه الحال بعلاج نظم هذه الشركات، ووجوب قناعتها باليسير من الربح. واتفقنا أخيرا على أن يبقى الأستاذ الشيخ فرغلي شهرين حيث هو، وأن تقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة، وأن تطلب رسميا من الإخوان من يحل محله من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه، وتعنى بسكنه، ومطالبه وفي نهاية المدة عاد فضيلة الشيخ فرغلي وتسلم مكانه فضيلة الأستاذ الشيخ شافعي أحمد، واستمرت الدعوة تشق طريقها في هذه الصحراء باسم الله مجريها، ومرساها. () إن مثل هذا القصص يولد في النفس معنى الاقتداء والتأسي أو على الأقل المحاكاة والتشبه وبمرور الزمن يمكن القضاء على الاحتقار أو الانهزام النفسي. 11 - النظر بإمعان ودقة في العواقب المترتبة على الاحتقار أو الانهزام النفسي، الدنيوية والأخروية، الفردية والجماعية، على النحو الذي أسلفنا، فربما كان لذلك دور كبير في القضاء على الاحتقار أو الانهزام النفسي. 12 - قيام ولي الأمر بواجبه من رعاية نفسه أولا، وتربيتها على الإسلام الصحيح الذي يمنح العزة، والكرامة، والثقة بالنفس، ثم فتح المجالات وحمايتها، ورعايتها لتربية الأمة جميعا على هذا الإسلام، فيسهم بذلك في اقتلاع جذور الاحتقار أو الانهزام من داخل النفس، ويغرس مكانها الشجاعة، والقوة والعزة النفسية. 13 - عدم الانبهار بحاضر الأعداء في مدنيتهم المادية التي يعيشونها الآن، وعدم تقليدهم كذلك فيما هم عليه من تأخر وانحطاط خلقي، مع اليقين أن هذا الحاضر إلى زوال لأنه مبني على غير أساس صحيح، وما كان كذلك لا يدوم طويلا، وأن الخير للمسلم أن يعيش حاضره المتميز على أساس من كتاب الله، ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن ماضيه المشرق الزاهر، ومن العمل الصادق الدؤوب بالليل والنهار حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فإن لذلك دورا كبيرا فن القضاء على الاحتقار أو الانهزام النفسي من جديد على معنى القوة والعزة الإسلامية. 14 - وأخيرا، الاستعانة بالله، ودوام الضراعة إليه أن يخلصه ويخلص كل مسلم من آفة الاحتقار أو الانهزام النفسي، وهو سبحانه يعين من يصدق في الاستعانة به، واللجوء إليه، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يدعوا بهذا الدعاء في الصباح والمساء: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم... ". وفي رواية ثانية: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال ". وفي رواية ثالثة: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال "
مختارات