الآفة السابعة والعشرون - تنافس الدنيا
والآفة السابعة والعشرون التي يمكن أن تصيب العاملين لدين الله، بل لقد أصابت بالفعل نفرا منهم، وخلفت وراءها آثارا خطيرة وعواقب مهلكة إنما هي " تنافس الدنيا ". وحتى يداوى منها من أصيب بها، ويسلم من شرها وغوائلها من عافاه الله - عز وجل - منها، فإننا سنعطي تصورا صحيحا وواضحا عنها من خلال هذه الجوانب: أولا: تعريف تنافس الدنيا: " تنافس الدنيا " مركب إضافي مؤلف من كلمتين هما: " تنافس " و " دنيا "، والأمر يقتضي معرفة ماهية كل منهما على حدة، كي يسهل تعريف هذا المركب " تنافس الدنيا "، ودونك ذلك: التنافس لغة: يأتي التنافس في اللغة على معان، منها: أ - محبة الشيء، والرغبة فيه، وأصله من الشيء النفيس في نوعه يقال: نافست في الشيء منافسة، ونفاسة، ونفاسا، ونفس الشيء بالضم نفاسة، صار مرغوبا فيه محبوبا. ب - الضن بالشيء أو البخل به، يقال: نفست عليه الشيء بالكسر أنفسه نفاسة: ضننت أو بخلت عليه به، وما أحب أن يصل إليه. ج - رؤية الغير فاقد الأهلية للشيء مع حسده عليه، نقول: تنافس الشيء، وبالشيء على فلان: لم يره أهلا لهذا الشيء وحسده عليه. د - التسابق، والتباري في الشيء من غير إلحاق الضرر به -أي بالتنافس - نقول: نافس فلان فلانا في كذا: سابقه وباراه من غير أن يلحق الضرر به، وتنافس القوم في كذا: تسابقوا فيه، وتباروا دون أن يلحق بعضهم - الضرر ببعض، () ومنه قوله سبحانه: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين). ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا فإن رؤية الغير ليس أهلا للشيء أو للأمر قد تحمل أو تقود إلى التسابق والتباري في تحصيله رغبة فيه، ومحبة له، وضنا به على هذا الغير. " الدنيا " لغة: والدنيا لغة، مؤنث الأدنى، يعني: الأقرب الألصق، يقال: هو ابن عمي دنيا (منون، وغير منون) قريب لاصق النسب، ثم صارت تطلق على الحياة الحاضرة أو العاجلة التي تسبق الحياة الغائبة أو الآجلة، وسميت بذلك لدنوها، أي لقربها منا، إذ يقال: دنا من الشيء دناوة، فيهو دان: قرب، أو لخستها، وحقارتها، إذا طلبت لذاتها، يقال: هذا دنيء: خسيس دون، أو لنقص وقصر عمرها في جنب عمر الآخرة، نقول: أعطى الدنية في دينه: النقيصة. () " تنافس الدنيا " لغة: وإذ عرفنا معنى كل من: " التنافس " و " الدنيا " على حدة، ونقول: إن " تنافس الدنيا " لغة: رؤية الغير أنه ليس أهلا للدنيا بصورة تحمل على التسابق والتباري في تحصيلها، رغبة فيها، ومحبة لها، وضنا بها على هذا الغير. " تنافس الدنيا " اصطلاحا: أما " تنافس الدنيا " اصطلاحا فهو- كما يقولالإمام النووي - رحمه الله -: " التباري في الرغبة في الدنيا، وأسبابها وحظوظها "، () ولعله يريد: " على وجه الانفراد، والاستئثار بها " على نحو ما جاء لغة، وواضح من هذا التعريف أنه لا يختلف كثيرا عن المعنى اللغوي. ثانيا: بعض مظاهر تنافس الدنيا وموقف الإسلام من هذا التنافس: وهناك مظاهر وسمات تدل على تنافس الدنيا، وأهم هذه المظاهر وتلك السمات: 1 - إهمال أو إهدار الورع في المطاعم، والمشارب، والملابس، والمراكب ونحوها. 2 - بغض طلاب الآخرة، والنيل منهم، بل والتظاهر والتحريف عليهم بوسيلة أو بأخرى. 3 - بغض أو معاداة كل من يسبقه في الدنيا، ولا يستطيع اللحاق به. 4 - ازدراء نعمة الله وعدم الرضى بها وبقضاء الله وقدره. 5 - المخاصمة المستمرة على الدنيا وما فيها من متاع أو عرض زائل. 6 - التشتت الدائم مع كثرة الهموم والأحزان، ولا سيما عند فوات شيء من الدنيا. 7 - الاشتغال الدائم بالسعي في طلب الدنيا مع نسيان الآخرة بالمرة أو مع تذكرها، ولكن بتهاون وفتور. 8 - الحديث الدائم عن الدنيا، وزخارفها، وزيناتها، وسبل اقتناصها... وهلم جرا. وتنافس الدنيا للدنيا مع نسيان أو إهمال الآخرة قبيح مذموم، كما شهدت بذلك نصوص الكتاب والسنة. أما نصوص الكتاب فقوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور{ (الملك). }وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{ (المطففين). }لمثل هذا فليعمل العاملون{ (الصافات). }ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون{ (الجمعة). }وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين{ (آل عمران). }اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم{ (الحديد). إن هذه النصوص حين تتحدث عن الآخرة، تدعو صراحة إلى المنافسة والمسارعة، والمسابقة، والسعي، وحين تتحدث عن الدنيا تدعو صراحة إلى المشي الهوينا، والانتشار في الأرض، وعدم التكالب أو التنافس في طلب هذه الدنيا. ومن نصوص الكتاب -كذلك - قوله سبحانه: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم{ (الحجر: 88). {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى{ (طه). يقول ابن كثير-رحمه الله: " يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم، ونظراؤهم فيه من النعيم، فإنما هي زهرة زائلة، ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور ". () وأما نصوص السنة النبوية فقوله صلى الله عليه وسلم: " فأبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتم "، () " إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ "، قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، () قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض "، () " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه من المال، والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه "، () " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو اجدر ألا تزدروا نعمة الله ". () وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: " إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ". () وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا "، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: " بركات الأرض... " الحديث. () وعن الحسن أنه قال: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فالقها في نحره "، () " والله لقد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا، أو ذهبت إلى ذا ". () أما إذا كان التنافس في الدنيا من أجل إحراز سبق أو كفاية يستغني بها المسلمون، كابتكار علمي، أو سبق اقتصادي، ولا يبقون عالة على أعدائهم، مع نية التقرب بذلك إلى الله، والطمع في جنته ورضوانه، ومع الاهتمام بكل أعمال الآخرة الأخرى والمتمثلة في النزول على حكم الله - عز وجل - في كل ما يأتي المرء وما يدع، فذلك حسن ومحمود ؛ لأنه لا يخرج عن أن يكون من عمل الآخرة. وقد أمرنا الله - عز وجل - أن تكون الدنيا التي في أيدينا موجهة نحو عمل الآخرة، وذلك في قوله سبحانه: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص: 77). ثالثا: أسباب تنافس الدنيا: ولتنافس الدنيا أسباب توقع فيه، وبواعث تؤدي إليه، وأهم هذه الأسباب وتلك البواعث: 1 - الغفلة عن أن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير: فقد تكون الغفلة عن أن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير من الأسباب المؤدية إلى تنافس الدنيا ؛ ذلك أن الله - عز وجل - قدر أزلا حظ كل واحد من هذه الدنيا، كما قال سبحانه: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} (الزخرف: 32). يقول العلامة ابن جرير الطبري - رحمه الله: " وقوله: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولا، ومن أردنا صديقا، ونتخذ من أردنا خليلا، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكا، وهذا مملوكا، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك، حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله تبارك وتعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} (الزخرف: 32): فتلقاه ضعيف الحيلة، عيي اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، سليط اللسان وهو مقتور عليه ". () بل أبرز ذلك للملك الذي يتولى نفخ الروح في كل إنسان بإذنه سبحانه حيث يؤمر: أن يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيا أم سعيدا. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ". () ومهما تبارى الناس، وتسابقوا فلن يغيروا شيئا مما قضى الله وقدر كما قال سبحانه: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} (الإسراء: 18). يقول ابن كثير-رحمه الله: " يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله، وما يشاء، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات، فإنه قال: {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ". () ومن ينسى ما قدمنا من أن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير يبتلى لا محالة بداء التنافس في الدنيا. 2 - الغفلة عن حقيقة الدنيا: وقد تكون الغفلة عن حقيقة الدنيا هي السبب في الوقوع في آفة تنافس هذه الدنيا ؛ ذلك أن الله خلق الحياة الدنيا لتكون معبرا أو قنطرة يمر الناس من فوقها إلى الدار الآخرة، ولكنه سبحانه جعلها بما فيها من زخارف وزينات، وشهوات دار امتحان وابتلاء، من ركن إليها ونسي آخرته فقد ضيع نفسه، إذ ركن إلى حقير قصير، ومن انتبه إليها وأخذ منها بالقدر الذي يسلمه من شرها، ويوصله إلى آخرته سلم، ونجا، بل غنم. فقال سبحانه: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} (آل عمران) {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (الكهف). {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} (الملك). {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا} (النساء). {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} (التوبة). {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}(يونس). {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} (هود). {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} (طه). {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون} (القصص). {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص: 77). {ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا} (فاطر: 5) إلى غير ذلك من الآيات. تلك هي حقيقة الحياة الدنيا، ومن غفل عن هذه الحقيقة، ركن إلى الحياة الدنيا وحرص عليها، وحمله هذا الركون وذلك الحرص إلى تنافس الدنيا. 3 - العيش في وسط حريص يتنافس الدنيا: وقد يكون الوسط الذي يعيش فيه المرء: قريبا - وهو البيت - أو بعيدا - وهو المجتمع - من بين أسباب تنافس الدنيا؛ ذلك أن المرء إذا وجد في وسط شغله الشاغل التسابق والتباري في حيازة الدنيا، ولم تكن لديه الحصانة الكافية التي تحميه من الأثر بهذا الوسط، فإنه يبتلى- لا محالة-بتنافس الدنيا. يقول الغزالي في التحذير من صحبة الحريص على الدنيا المتنافس فيها: " وأما الحريص على الدنيا فصحبته سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة ". () 4 - حب الدنيا: وقد يكون حب الدنيا من بين الأسباب المؤدية إلى تنافس الدنيا ؛ ذلك أن حب الدنيا إذا تمكن من القلوب حمل على التباري والتسابق فيها من غير شبع أبدا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ". () 5 - إقبال الدنيا: وقد يكون إقبال الدنيا من بين الأسباب المؤدية إلى تنافسن هذه الدنيا. ذلك أن الدنيا إذا أقبلت، وغابت معايير وضوابط تعاطي هذه الدنيا تبارى الناس فيها، وتنافسوها خشية أن تضيع أو تنتهي كما يتصورون. ولقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا السبب حين قال في الحديث الذي ذكرناه آنفا: "... فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم "، () " أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا "، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: " بركات الأرض... " الحديث. () 6 - الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير حق: وقد يكون الاستعلاء والتكبر في الأرض بغير الحق من بين الأسباب المؤدية إلى تنافس هذه الدنيا؛ ذلك أن المستعلي والمتكبر في الأرض بغير الحق تسول له نفسه الأمارة بالسوء، بإغراء من شياطين الجن والإنس، أنه لن يحتفظ لهذه النفس بما حصلته من علو وتكبر، ومنزلة لنفوس الآخرين إلا بأن يكون صاحب النصيب الأوفى، والحظ الوافر من هذه الدنيا، وهذا بدوره يحمله على التسابق والتباري في طلب هذه الدنيا وهذا هو تنافس الدنيا. 7 - طول الأمل: وقد يكون طول الأمل من بين الأسباب المؤدية إلى تنافس الدنيا ؛ ذلك أن من يطول أمله في الدنيا يحرص على أن يجمع من هذه الدنيا ما يغطي هذا الأمل، ولا يتأتى له ذلك إلا بالتسابق والتباري في طلب الدنيا، يعني: التنافس فيها، ولعل هذا هو سر التحذير من الاسترسال في طول الأمل؛ إذ يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: " هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج: أمله، وهذه الخطط الصغار: الأغراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا ". () وعن أنس رفعه: " أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب وطول الأمل، والحرص على الدنيا ". () قال ابن حجر: " ويتولد من طول الأمل: الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب ". () 8 - الغفلة عن الموت والدار الآخرة: وقد تكون الغفلة عن الموت والدار الآخرة من أسباب الوقوع في تنافس الدنيا؛ ذلك أن من بقي متذكرا أنه مهما طال به الأجل، وامتد به العمر، فإنه ميت لا محالة، وأنه راحل عن هذه الدار إلى الدار الآخرة حيث يلقى ربه، ويسأل عن كل شيء، حتى عن النقير، والقطمير، بل وعن المكحل لم وضعه في عينيه، والذر لم فتته. يقول تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} (السجدة). {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون). {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} (الحجر). {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} (التكاثر). ويقول صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ، إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن فتات الطين في أصبعه، فلا ألفينك يوم القيامة، وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك "، () " ما فوق الإزار، وظل الحائط، وخبز يحاسب به العبد يوم القيامة، أو يسأل عنه ". () وقال الصحابة يوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست في سحابة؟ " قالوا: لا، قال: " فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس في سحابة؟ " قالوا: لا، قال: " فوالذي نفسي بيده، لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما "، قال: " فيلقى العبد، فيقول: أي فل - يعني: يا فلان - ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟، () فيقول: بلى "، قال: " فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل، ألم أكرمك وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس، وتربع؟ فيقول: بلى أي ربي، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك، وصليت، وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذا "، قال: " ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه ". () من بقي متذكرا هذه الحقيقة فإنه يضع الدنيا في يديه، وتحت قدميه، ولا يبالي أقبلت أو أدبرت. أما من نسي هذه الحقيقة فإنه يقيم للدنيا وزنا، ويعمل لها حسابا ويبذل قصارى جهده في تحصيلها ولو كان بالتسابق والتباري فيها، ولعل هذا من بين الأسباب التي من أجلها دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى دوام ذكر الموت والاستعداد للدار الآخرة قائلا: " أكثروا ذكر هاذم اللذات - يعني الموت "، () " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، ثم تمنى على الله ". () 9 - الغفلة عن الآثار المترتبة على تنافس الدنيا: وأخيرا قد تكون الغفلة عن الآثار المترتبة على تنافس الدنيا دنيوية أو أخروية، فردية أو جماعية، هي السبب في الوقوع في هذا التنافس، انطلاقا من مبدأ: أن من غفل عن الآثار الضارة المترتبة على أمر ما، ولم تكن لديه الحصانة الكافية التي تحميه من الوقوع في هذا الأمر: فإنه يقع فيه لا محالة، ومن هنا كانت الدعوة إلى الفقه في الدين على النحو الذي قدمنا غير مرة فيما مضى من آفات. رابعا: آثار تنافس الدنيا: ولتنافس الدنيا آثار ضارة، وعواقب مهلكة دنيوية وأخروية سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي. ودونك طرفا من هذه الآثار، وتلك العواقب: أ - على العاملين: فمن آثار تنافس الدنيا: 1 - القلق والاضطراب النفسي: وذلك أن من سيطرت عليه الدنيا، وابتلى بجمعها، والتنافس فيها فيصاب لا محالة بالقلق والاضطراب النفسي، خوفا من أن تضيع عليه هذه الدنيا، بل خوفا من ألا يحصل الكثير منها، ويحق فيه قول الحق - تبارك وتعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} (طه: 124). {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} (الجن). 2 - إهدار حقوق الأخوة الإسلامية: ذلك أن تنافس الدنيا سيجر صاحبه حتما إلى الظنون الكاذبة وما تؤدي إليه من تتبع للعورات، والغيبة، والنميمة، والسخرية والاستهزاء والمزايدة على أخيه المسلم في بيع أو شراء أو نكاح، بل ربما تصل الأمور إلى حد الكيد والتآمر، وانتهاك الأعراض، وسفك الدماء، وسلب الأموال لئلا يسبق في تحصيل الدنيا، وهذا شر. 3 - الانصراف عن أعمال الآخرة: ذلك أن من جعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، وسعى إلى سبق ومجاراة الآخرين في تحصيلها ينصرف لا محالة عن أعمال الآخرة، وربما لا يجد من الأوقات والتفكير ما يعينه على إتيان هذه الأعمال. 4 - كراهية الموت والدار الآخرة: ومن انصرف عن أعمال الآخرة، واشتغل بالدنيا، وبالتسابق والتباري في تحصيلها يكره الموت والدار الآخرة؛ لأنهما يقطعانه عما هو مشتغل متعلق، متلذذ به، فضلا عن أنه لم يقدم شيئا يسعى إليه في الآخرة. ولعل هذا هو ما فقهه ذلك العالم الجليل أبو حازم الأعرج وقد سأله سليمان بن عبد الملك قائلا: يا أبا حازم، ما لنا نكره - الموت؟ فأجاب: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم الانتقال من العمران إلى الخراب. () ب - على العمل الإسلامي: وأما آثار تنافس الدنيا على العمل الإسلامي فأهمها: 1 - الفرقة والتمزق: ذلك أن التنافس على الدنيا يؤدي إلى الخصومات، وهي بدورها تؤدي إلى العداوة، والكراهية، والبغضاء، وحينئذ لا يكون وحدة ولا اجتماع ولا ترابط، وهذه هي قاصمة الظهر حقا. 2 - طول الطريق مع كثرة التكاليف: ذلك أنه حين ينتهي الأمر بالعمل لدين الله إلى حد الفرقة، تفسح الطريق أمام العدو فيمتطي الظهور، ويطوق الأعناق، ويشدد الخناق، فتعظم التكاليف، وتطول الطريق، وينتفش الباطل، وينتشي، ويعود من جديد لبذر بذور الشر والفساد. ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل هذه الآثار سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، ولكن في إجمال حين قال: "... فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم "، () " أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا... " الحديث. () خامسا: علاج تنافس الدنيا: وإذ قد فرغنا من تعريف تنافسن الدنيا، وتحديد مظاهره وموقف الإسلام منه، والأسباب المؤدية إليه، والآثار المترتبة عليه، سواء على العاملين أو على العمل الإسلامي، فإن من السهل بعون الله وتوفيقه رسم طريق العلاج، وتتلخص هذه الطريق في: 1 - اليقين التام بأن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير، وأنه مهما أتعب المرء نفسه، وتكالب على الدنيا، وتبارى مع الآخرين في تحصيلها أو نيل حظ منها، فإنه لن يصل إلى شيء فوق ما قسم الله، إذ قد يقود اليقين صاحبه إن كان صادقا أن يمشي الهوينا، وأن يأخذ بالأسباب البشرية فقط، ويدع ما قسم الله له، والله سبحانه لا يضيع أجر المحسنين. 2 - والبصيرة التامة بحقيقة الدنيا، وأنها ليست غاية أو هدفا، وإنما هي وسيلة لغاية وهدف، وعليه فلا يصح أن يقف عندها طويلا أو يركن إليها، ويسابق الآخرين في جمعها وتحصيلها. 3 - وأن ينزع المسلم نفسه أو أن ينتزعه الآخرون من الوسط الحريص على الدنيا المتنافس فيها، ثم يلقي بنفسه في وسط من يريدون الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، فلعل ذلك يسهم في اقتلاع الدنيا من القلوب ويجعلها في الأيدي، وبذلك يقضي على سبب وليس من أسباب تنافس الدنيا. 4 - وأن يوقن أن المرء مهما حصل من الدنيا فلن يشبع أبدا، إذ لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. 5 - وأن يعدل من نظرته إلى إقبال الدنيا بحيث لا يراها مجالا للتنافس، وإنما يراها فتنة يخاف على نفسه منها كما قال سبحانه: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} (الأنبياء). {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} (الأنعام). 6 - وأن يداوي المرء نفسه من آفات الإعجاب بالنفس، والغرور والتكبر، فيقضي بذلك على باب كبير يمكن أن يؤدي إلى التسابق والتباري في تحصيل الدنيا. 7 - وأن يخفف من طول الأمل ما استطاع ذلك سبيلا، واضعا في حسابه أن طول الأمل لا يليق بعبد ضعيف جاهل لا يدري متى الرحيل عن هذه الدار، ولا ما يكون بعد هذا الرحيل. 8 - وأن ينعم النظر في كتاب الله وسنة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ليرى ماهية وحقيقة الدنيا في جنب ماهية وحقيقة الدار الآخرة، و لعل هذه الرؤية تولد لديه قناعة ويقينا أن الدنيا أقل وأحقر من أن يتكالب الناس عليها، ويتنافسوها. 9 - دوام تذكر الموت والدار الآخرة، وحاله عند سكرات الموت، وعند دخوله قبره، وقد انقطع عنه كل شيء، وأوله هذه الدنيا، تلك التي أفنى عمره في طلبها، والتكالب عليها، والتنافس فيها، ثم حاله عند السؤال، وما يكون بعده من نعيم وراحة، أو شقوة وتعب، وحاله عند البعث والنشور، والحشر والعرض على الله، إلى غير ذلك مما يكون يوم القيامة حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ولعل تذكر ذلك يخوفه من داخله، ويحمله على أن يخرج حب الدنيا من القلب، ويجعلها في اليد، وينسيه التسابق والتباري في طلبها وحيازتها. 10 - طول النظر في سيرة سلف هذه الأمة، وكيف كان تواصيهم فيما بينهم، وأخذهم أنفسهم بمنهج: أن الدنيا أقل وأحقر من أن يفنوا أعمارهم في طلبها والتنافس فيها لذاتها مستخدمين معها قول الله - عز وجل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك} (القصص: 77). هذا الحسن يقول: " من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره ". () وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، يقدم عليه أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج، فيعرفه عمر، وأبو حازم لا يعرفه، فيقول له عمر: ادن مني يا أبا حازم، وحين يدنوا منه يعرفه، فيقول له: أنت أمير المؤمنين؟ فيقول عمر: نعم، فيقول: ألم تكن بالمدينة بالأمس أميرا؟ قال: نعم، قلت: كان مركبك وطيئا، وثوبك نقيا، ووجهك بهيا، وطعامك شهيا، وحرسك كثيرا، فما الذي غير ما بك، وأنت أمير المؤمنين؟ فبكى، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لو رأيتني بعد ثالثة في قبري، قد سالت حدقتاي على وجنتي، وانشق بطني، وجرت الديدان في بدني، لكنت أشد إنكارا لي من يومك هذا، أعد علي الحديث الذي حدثتنيه بالمدينة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن بين أيديكم عقبة كؤودا مضرسة، لن يجوزها إلا كل ضامر مهزول "، فبكى، ثم قال: تلومني يا أبا حازم أن أضمر نفسي لتلك العقبة، لعلي أنجو منها، ما أظنني بناج منها. () وقال أبو حازم هذا: " نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أفضل من نعمته فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطاها قوما فهلكوا "، " رأيت الدنيا شيئين: شيئا منها هو لي فلن أعجله قبل أجله، ولو طلبته بقوة السموات والأرض، وشيئا منها هو لغيري، فذاك ما لم أنله فيما مضى، ولا أرجوه فيما بقى، يمنع الذي لغيري مني، كما يمنع الذي لي من غيري، ففي أي هذين أفني عمري؟ "، " الناس عاملان: عامل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلف الفقر، ويأمنه على نفسه، فيفني عمره في بغية غيره، وعامل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأصبح ملكا عند الله، لا يسأل الله شيئا فيمنعه ". ومن قبل كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد عندما فتح الله عليه: أما بعد، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، () لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا، ولم يفتنوا بها، أرغبوا فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا، فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلزم الحدث في سنه، الجاهل بعلمه، المأفون () في رأيه، المدخول في عقله، إنا لله وإنا إليه راجعون ". () إلى غير ذلك من أخبار هؤلاء في هذا الباب. ولعل طول هذا النظر يولد في النفس معنى الاقتداء والتأسي أو على الأقل المحاكاة والتشبه. 11 - دوام التذكير والتبصير بالدنيا، والتنافس فيها، فإن الإنسان كثيرا ما ينسى وعلاج هذا النسيان، إنما يكون بالتذكير والتبصير، ولهذا يقول الحق - تبارك وتعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفـع المؤمنين}(الذاريات)، {فذكر إن نفعت الذكرى} (الأعلى). 12 - دوام مراقبة الله في الدخول والخروج، في السر والعلانية، في كل الظروف وفي سائر الأحايين، فإنها إن كانت صاقة تحجز عن كل شر، وتدفع إلى كل خير، ثم يكون مع المراقبة، المشارطة، والمحاسبة، وتصحيح الخطأ بالإنابة والتوبة النصوح، ولعل هذه الخطوات بمرور الزمن، مع الجدية وأخذ الأمر بحزم وقوة، تفيد في القضاء أو على الأقل التخفيف من تنافس الدنيا.
مختارات