فقه الإيمان بالرسل (٤)
والله رؤوف بالعباد، والملك ملكه، والخلق خلقه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، لا يمكن أن يترك خلقه للشياطين تعبث بهم.
فحين حرف اليهود والنصارى كتاب ربهم.
وبدلوا شرائعه.
وكذبوا وافتروا.
وظلموا وطغوا.
وجحدوا وكتموا الحق.
وصدوا عن سبيل الله.
وقتلوا الأنبياء والرسل.
وتركوا العمل بدينهم.
ونقضوا العهد.
ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
واشتروا به ثمناً قليلاً.
وقالوا على الله ورسله غير الحق.
بعد هذا الظلم والعناد، والإعراض والإفساد، اقتضت حكمة الله ورحمته بالبشرية أن يرسل رسولاً يهديها إلى الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله.
فأرسل الكريم الرحمن جل جلاله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، ورسولاً إلى الناس أجمعين إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠)} [النساء: ١٧٠].
فلم يكن بد من تبليغ عام في ختام الرسالات، يبلغ إلى الناس كافة، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولم يسبق أن كانت هناك رسالة عامة، ولم يكن بد من هذ الرسالة العامة.
فكانت حقاً هذه الرسالة الكاملة رحمة للعالمين في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء: ١٠٧].
وأهل الأرض قاطبة، واليهود والنصارى، كل هؤلاء مدعوون إلى الإسلام، مدعوون إلى الإيمان بالله، والإيمان بهذا الرسول، ونصره وتأييده، كما أخذ عليهم ميثاقه بالإيمان به.
فهو رسوله إلى أهل الكتاب، كما أنه رسوله إلى العرب، ورسوله إلى الناس كافة، في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل زمان، وكل مكان.
فلا مجال لإنكار رسالته من عند الله، أو الادعاء أنها خاصة بالعرب، أو أنها غير موجهة إلى أهل الكتاب: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥)} [المائدة: ١٥].
فهو رسول الله إلى الناس وإليكم، ودوره أن يبين لكم ويكشف ما تواطأتم على إخفائه، من حقائق كتاب الله الذي معكم.
وقد أخفي اليهود كثيراً من أحكام الشريعة كرجم الزاني، وتحريم الربا، وقصة أصحاب السبت الذين مسخهم الله قردة وخنازير.
وأخفى النصارى الأساس الأول للدين وهو التوحيد، فقالوا تارة إن الله ثالث ثلاثة، وتارة قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم، وتارة قالوا المسيح ابن الله.
كما أخفى أهل الكتاب خبر بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)} [الأعراف: ١٥٧].
والله تبارك وتعالى يتودد إلى أهل الكتاب، ويبين لهم أنه بُعث إليهم، وإلى غيرهم رسولاً يهديهم إلى ربهم، بعدما ضلوا وانحرفوا عن الحق كما قال سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)} [المائدة: ١٩].
إن الله الذي خلق هذا الكون وعجائبه، وسيره بأوامره، هو الذي خلق الإنسان وفطرته، وهو الذي وضع للإنسان المنهج الذي يسير عليه.
وهو سبحانه الذي رضي للبشرية هذا الدين.
فبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، حيث لا يهديهم منهج غيره من نتاج البشر العاجزين.
فالواجب على البشرية كافة أن تشكر الله على ما أنعم به عليها من هذا الدين الكامل، وتتبع الصراط المستقيم والدين القويم الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)} [الأنعام: ١٥٣].
فأما القول بأن الله هو المسيح ابن مريم، أو أن المسيح ابن الله، أو ثالث ثلاثة فهو الكفر والشرك.
وأما القول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه، أو أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، فهو الافتراء والكذب الذي لا دليل عليه.
فهل يستحق قيادة البشرية من ظلمها.
وصد عن سبيل الله.
وكفر بالله.
وقتل رسله.
ونقض العهد: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥)} [النساء: ١٥٥].
وهل يستحق الإمامة من يقول عن ربه: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١)} [آل عمران: ١٨١].
أو يقول عن خالقه إنه بخيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: ٦٤].
أو يقول عن ربه إنه أب: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: ١٨].
وهل يستحق إمامة البشرية من استهان بالإله وأشرك به، وهل بعد هذا من كفر؟:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: ١٧].
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)} [المائدة: ٧٣].
وماذا بقي من شريعة اليهود والنصارى؟.
وهل قامت هذه الشريعة في حياتهم؟.
وما هو مصير البشرية لو بقيت بدون إيمان يصلها بربها، وشريعة تستقيم بها حياتها؟.
ومن هنا كانت رحمة الله بالبشرية، ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، وببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الله الحجة على أهل الكتاب وغيرهم، فهو مبعوث إلى الناس كافة إلى يوم القيامة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)} [الأعراف: ١٥٨].
إن أشد القلوب استعصاءً على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت، كاليهود المغضوب عليهم، ثم يليهم النصارى الضالون.
فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها، وينف عنها الركام والغبار، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها أول مرة.
فأما القلوب التي نوديت من قبل، فالنداء الثاني لا تكون له جدته، ولا تكون له هزته، ولا يقع فيها الإحساس بجديته وأهميته، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف، والصبر الطويل، وهذا ما حصل.
فلم يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى إلا القليل، بينما أسلم من الكفار والمشركين ما يزيد على مائة ألف، شهدوا معه حجة الوداع، ثم تتابع دخول الناس في دين الله أفواجاً.
إن الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الإٍسلام في صورته النهائية الأخيرة، ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً، ولتهيمن على كل ما كان قبلها، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله للحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ويحكم بها بين الناس: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: ٤٨].
ولا يحل لأحد أن يترك شريعة الله في أي حال، طالما أنه ليس هناك رسول جديد ولا رسالة جديدة.
لقد أكمل الله عزَّ وجلَّ لنا هذا الدين، وتمت به النعمة على العباد، ورضيه الله منهج حياة للناس أجمعين، ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: ٣].
وقد علم الله سبحانه حين رضيه للناس أنه يسع الناس جميعاً، وعلم حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً، وعلم سبحانه أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم، وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله.
وحذر سبحانه من اتباع أهواء الضالين الذين في نفوسهم رغبة خفية لتأليف القلوب ولو على غير الدين، ومن مسايرة بعض رغباتهم عندما تصطدم ببعض أحكام الشريعة.
وقد حذر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من اتباع الأهواء، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه فقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩)} [المائدة: ٤٩].
وبذلك أغلق الله عزَّ وجلَّ مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيراً وتأليفاً للقلوب وتجميعاً للصفوف بالتساهل في شيء من شريعة الإسلام في مقابل إرضاء الجميع، والمحافظة على وحدة الصف.
إنه إما حكم الله.
وإما حكم الجاهلية.
ولا وسط بينهما.
وهل يليق بالعاقل أن يرفض شريعة الله ويتبع حكم الجاهلية؟.
وهل أحد أحسن من الله حكماً وديناً، إن هذا لعجب: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)} [المائدة: ٥٠].
أيستطيع أحد أن يقول أنه أعلم بالناس من خالق الناس؟.
أيستطيع أن يقول أنه أرحم بالناس من رب الناس؟.
أيستطيع أن يقول أنه أعرف بمصالح الناس من رب الناس؟.
ألا ما أظلم من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة.
ويستبدل بها شريعة الجاهلية.
ألا ما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به سفلة الخلق.
إنه إما إسلام وإما جاهلية.
وإما إيمان وإما كفر.
وإما حكم الله وإما حكم الجاهلية.
وإما إلى الجنة وإما إلى النار: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣)} [آل عمران: ١٦٢، ١٦٣].
مختارات

