فقه الإيمان باليوم الآخر (١)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)} [التوبة: ١٨].
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)} [المائدة: ٦٩].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، وجعله يمر بأربع دور، وجعل لكل دار أحكاماً، وجعل له في كل دار أجلاً.
فخلق الله الإنسان في بطن الأم، وأمهله تسعة أشهر حتى تكمل أعضاؤه وجوارحه.
فإذا كملت خرج من بطن الأم إلى بطن الدنيا، وهي دار العمل، وطلب منه تكميل الإيمان والأعمال الصالحة.
فإذا كملت مدته جاءه أجله، وخرج من الدنيا إلى مكان الانتظار وهو القبر، وهو برزخ يعذب فيه الإنسان أو ينعم حسب عمله.
فإذا اكتمل من قدر الله خلقه من أهل الجنة وأهل النار قامت الساعة، وخرج الناس من قبورهم إلى دار القرار، حيث ينال المؤمنون كمال النعيم في الجنة، وينال أهل النار كمال العذاب في النار: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)} [الروم: ١٤ - ١٦].
والإنسان في هذه الدنيا عبد مربوب كغيره، هيأ الله له كل ما يحتاجه من الطعام والشراب، والسكن والمركب، واللباس والمال.
فإذا جاء يوم القيامة هدمت أبنية الدنيا، ودكت الأرض، وسيرت الجبال، وشقت السماء، وكورت الشمس، وانتثرت النجوم، وخسف القمر، وعطلت
العشار، وتم تخريب هذا العالم وهدمه بأجمعه.
فالله تبارك وتعالى عزيز حكيم، لما بنى للناس دار الدنيا، للسكن بها، والتمتع بخيراتها، وجعل ما فيها زينة للأبصار، وعظة للاعتبار، والاستدلال بها على وحدانيته، وجميل صنعه، بما يقتضي الإيمان به، وإخلاص العبادة له، والعمل بدينه وشرعه.
فلما انقضت مدة السكنى بها، واستوفى كل إنسان رزقه وأجله، وأثره وعمله، وحقت كلمة ربك على فنائها، أجلاهم ربك منها، وهدمت وخربت لانتقال الخلق منها، وبدلت بدار أخرى، أبقى منها وأدوم، ثم نقل الخلق إليها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨)} [إبراهيم: ٤٨].
والعبد المسلم في الدنيا كالأجير، والأجير حال اشتغاله بالعمل لا تدفع الأجرة بكمالها إليه، لأنه إذا أخذها كاملة لا يجتهد في العمل، فإذا أكمل عمله كان له الحق في المطالبة بكامل أجرته.
وهكذا الإنسان يعبد ربه ويمتثل أوامر خالقه في الدنيا، فيسعده الله في الدنيا، ويوفيه كامل أجرته يوم القيامة بعد فراغه من جميع أعماله.
وإذا كان محل أخذ الأجرة الكاملة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل.
والله عزَّ وجلَّ عزيز حكيم منزه عن الظلم والعبث، وله عبيد بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وهو رحيم عدل، فلا بد أن ينصف عباده المظلومين ممن ظلمهم.
وإذا لم يحصل هذا في هذه الدار فلا بد من دار أخرى، يظهر فيها العدل والإنصاف وهي الدار الآخرة التي فيها الحكم لله وحده: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)} [غافر: ١٧].
والله سبحانه أمر بالطاعات، ورغب فيها بربط الثواب بفعلها، ونهى عن المعاصي والقبائح، وحذر منها بربط العقاب بفعلها.
والثواب المرغب فيه، والعقاب المهدد به، غير حاصل كله في دار الدنيا، فلا بد من دار أخرى يحصل فيها للعبد المطيع كمال الثواب، ويحصل للعبد المسيء كمال العقاب.
والحكمة تقتضي تمييز المحسن من المسيء، والظالم من المظلوم، والمؤمن من الكافر، وإكرام من أطاع، وإهانة من عصى، والقصاص للمظلوم ممن ظلمه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)} [الجاثية: ٢١].
والدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والإنسان في الدنيا لا يزال في الحبس:
فأول الحبوس صُلب الأب.
وثانيها بطن الأم.
وثالثها المهد.
ورابعها الكد على العيال.
وخامسها مرض الموت.
وسادسها القبر.
فإن خرجت منه إلى الجنة نسيت مرارة كل حبس تقدم.
وإن خرجت منه إلى النار، فذاك حبس الأبد، وخسارة الأبد.
فالناس يوم القيامة قسمان:
إما خارج من سجن الدنيا إلى الجنة.
وإما ذاهب إلى سجن الآخرة إلى الأبد.
وأوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن:
يوم يولد فيخرج من بطن أمه إلى دارهم.
ويوم يموت ويدفن مع الموتى فيجاور جيراناً لم ير مثلهم.
ويوم يبعث فيشهد مشهداً لم ير مثله قط.
ولذلك قال عيسى بن مريم: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)} [مريم: ٣٣].
مختارات

