باب ما ورد في خلق آدم عليه السلام (٥)
وقوله في سورة طه: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [طه: ١٢٣] هو أمرٌ لآدم وإبليس، واستتبع آدمُ حوَّاءَ، وإبليسُ الحيَّة، وقيل: هو أمرٌ لهم بصيغة التثنية، كما في قوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨].
والصحيح أن هذا لما كان الحاكمُ لا يحكم إلا بينَ اثنين مُدَّعٍ ومُدَّعى عليه، وقال: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨].
وأما تكريرُه الإهباط في سورة البقرة في قوله: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٦ - ٣٩] فقال بعض المفسرين: المرادُ بالإهباط الأوَّل الهبوطُ من الجنَّة إلى السماء الدنيا، وبالثاني من السماء الدنيا إلى الأرض.
وهذا ضعيفٌ، لقوله في الأول ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [البقرة: ٣٦] فدلَّ على أنهم أهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأوَّل، واللَّه أعلم.
والصحيحُ أنه كرَّره لفظًا وإن كان واحدًا، وناط مع كل مرة حُكمًا، فناطَ بالأوَّل عداوتهم فيما بينهم، وبالثاني الاشتراط عليهم: أنَّ منْ تبعَ هُداه الذي يُنزِّله عليهم بعد ذلك فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقيّ، وهذا الأسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروى الحافظ ابن عساكر: عن مجاهد، قال: أمرَ اللَّه مَلَكين أن يُخرجا آدمَ وحوَّاءَ من جِواره، فنزعَ جبريلُ التَّاجَ عن رأسهِ، وحلَّ ميكائيلُ الإكليلَ عن جبينه، وتعلَّق به غصنٌ، فظنَّ آدمُ أنه قد عُوجلَ بالعقوبة، فنكَّسَ رأسَه يقولُ: العفوَ العفوَ، فقال اللَّه: أفرارًا مني؟ قال: بل حياءً منك يا سيدي!
وقال الأوزاعي: عن حسان -هو ابن عطيَّة- مكثَ آدمُ في الجنَّة مئةَ عام، وفي روايةٍ ستين عامًا، وبكى على الجنَّة سبعينَ عامًا، وعلى خطيئته سبعينَ عامًا، وعلى ولده حينَ قُتِلَ أربعين عامًا.
رواه ابن عساكر.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبو زُرْعَةَ، حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا جرير، عن سعيد، عن ابن عبَّاس قال: أُهبطَ آدمُ إلى أرض يُقالُ له دَحْنا بين مكَّة والطائف.
وعن الحسن قال: أهبط آدمُ بالهند، وحوَّاء بجدة، وإبليس بدست مَيْسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحيَّة بأصبهان.
رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال السدي: نزلَ آدمُ بالهند، ونزل معه بالحجر الأسود، وبقبضةٍ من ورق الجنة، فبثَّه في الهند، فنبتتْ شجرةُ الطِّيب هناك.
وعن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة.
رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: إن اللَّه حينَ أهبط آدمَ من الجنَّة إلى الأرض علَّمه صنعةَ كلِّ شيءٍ، وزوَّدهَ من ثمار الجنَّة، فثمارُكم هذه من ثمار الجنَّة، غير أن هذه تتغيرُ وتلك لا تتغير.
وقال الحاكم في "مستدركه": أنبأنا أبو بكر بن بالويه، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عمَّار بن أبي معاوية البَجليّ، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: ما أُسكنَ آدمُ الجنَّة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه.
وفي صحيح مسلم: من حديث الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "خيرُ يومٍ طلعتْ فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلقَ آدمُ، وفيه أُدخلَ الجنَّة، وفيه أخرج منها".
وفي الصحيح من وجه آخر "وفيه تقوم الساعة".
وقال أحمد: حدَّثنا محمد بن مصعب، حدَّثنا الأوزاعي، عن أبي عمَّار، عن عبد اللَّه بن فَرُّوخ، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، قال: "خيرُ يومٍ طلعتْ فيه الشمسُ يومُ الجمعة، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أدخلَ الجنَّة، وفيه أخرجَ منها، وفيه تقومُ السَّاعةُ" على شرط مسلم.
فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر: من طريق أبي القاسم البَغَوي، حدَّثنا محمد بن جعفر الوركاني، حدَّثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس؛ قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: "هبطَ آدم وحواء عُريانين جميعًا، عليهما ورق الجنَّة، فأصابه الحرُّ حتى قعد يبكي ويقولُ لها: يا حوَّاء! قد آذاني الحرُّ، قال: فجاءه جبريلُ بقُطنٍ، وأمرَها أنْ تغزلَ، وعلَّمها، وأمرَ آدمَ بالحياكة، وعلَّمه أن ينسجَ.
قال: وكان آدمُ لم يُجامع امرأتَه في الجنَّة حتى هبطَ منها، للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من الشجرة.
قال: وكان كلُّ واحد منهما ينامُ على حدَةٍ، ينامُ أحدُهما في البطحاء والآخر من ناحية أخرى، حتى أتاه جبريلُ فأمرَه أن يأتيَ أهله.
قال: وعلَّمه كيف يأتيها، فكلما أتاها جاءه جبريلُ، فقال؛ كيف وجدتَ امرأتكَ؟ قال: صالحة" فإنه حديث غريبٌ، ورفعُه منكرٌ جدًا، وقد يكون من كلام بعض السلف، وسعيدُ بن مَيْسَرة هذا، هو أبو عمران البَكْري البَصْري، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حِبَّان: يروي الموضوعات.
وقال ابن عديّ: مظلم الأمر.
وقوله ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٣٧] قيل: هي قوله ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣].
رُوي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب، وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخُراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا عليُّ بن الحسين بن إشكاب، حدَّثنا عليُّ بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أُبيِّ بن كعب، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "قالَ آدمُ: أرأيتَ يا ربِّ إن تبتُ وراجعتُ، أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم" فذلك قوله ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧].
وهذا غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع.
وقال ابن أبي نَجيح: عن مجاهد، قال: الكلمات "اللهم لا إله إلا أنت سبحانَكَ وبحمدكَ، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي إنك خير الغافرين.
اللَّهُمَّ لا إله إلا أنت سبحانكَ وبحمدك، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي إنك خيرُ الراحمين.
اللَّهُمَّ لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ وبحمدكَ، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فتبْ عليّ إنَّك أنت التَّواب الرحيم".
وروى الحاكم في "مستدركه": من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس، ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] قال: قال آدم: يا ربِّ! ألم تَخْلُقني بيدكَ؟ قيل له: بلى.
ونفختَ فيَّ من روحكَ؟ قيل له: بلى.
وعطستَ، فقلتَ: يرحمُك اللَّه، وسبقتْ رحمتك غضبَكَ؟ قيل له: بلى.
وكتبتَ عليَّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى.
قال: أفرأيتَ إن تبتُ، أفراجعي إلى الجنة؟.
قال: نعم.
ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه.
وروى الحاكم أيضًا، والبيهقيُّ، وابن عساكر، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدِّه، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "لما اقترفَ آدمُ الخطيئةَ قال: يا ربِّ أسألُكَ بحق محمَّد أن غفرتَ لي.
فقال اللَّه: فكيفَ عرفتَ محمَّدًا ولم أخْلُقْه بعدُ؟ فقال: يا ربِّ لأنك لما خلقتني بيدكَ، ونفختَ فيَّ من روحكَ، رفعتُ رأسي فرأيتُ على قوائمِ العرش مكتوبًا لا إله إلا اللَّه محمَّدٌ رسولُ اللَّه.
فعلمت أنَّك لم تُضِفْ إلى اسمكَ إلا أحبَّ الخلق إليكَ.
فقال اللَّه: صدقتَ يا آدمُ! إنَّه لأحبُّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقِّه فقد غفرتُ لكَ، ولولا محمَّدٌ ما خلقتُك".
قال البيهقي: تفرَّد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف، واللَّه أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: ١٢١ - ١٢٢].
مختارات