76. شداد بن أوس الأنصاري
شداد بن أوس الأنصاري
"إن من الناس من يؤتى علما ولا يؤتى حلما، وإن منهم من يؤتى حلما ولا يؤتى علما، وإن شداد بن أوس أوتي العلم والحلم معا" [عارفوه من الصحابة]
هذا الصحابي الجليل وعاء (١) من أوعية العلم والحلم …
وعابد من عباد الصحابة …
وزاهد من زهاد الأنصار …
قد تشبع بحب الله ورسوله ﷺ، وارتوى من دين الله القويم، والتزم صراطه المستقيم.
إنه شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري ﵁ وأرضاه …
* * *
نشأ شداد بن أوس في أسرة بذلت للرسول صلوات الله وسلامه عليه كل ما تستطيعه من تأبيد ونصرة، وأعطته سائر ما تملكه من طاقة وعون.
فأبوه أوس بن ثابت؛ كان أحد الرجال السبعين الذين بايعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليلة العقبة.
وعاهدوه على أن يمنعوه (٢) هو ومن معه؛ مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم.
فبر أوس بن ثابت أبو شداد بما عاهد عليه الله، وبذل في سبيل الإسلام
جميع ما تملكه قواه.
وظل يجاهد إلى جانب الرسول الكريم ﷺ حتى استشهد يوم أحد مقبلا غير مدبر، ومضى إلى جوار ربه راضيا مرضيا.
وعمه حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه …
والذائد (٣) عنه بلسان؛ كان أحد على المشركين من مرهفات (٤) السيوف.
والمدافع عنه ببيان؛ كان أشد على الكفار من وقع السهام في غبش (٥) الظلام.
* * *
وقد أتيح (٦) لشداد بن أوس فوق ذلك ما لم يتح لغيره من شبان المدينة.
فقد كتب لبيتهم شرف استضافة رقية بنت رسول الله ﷺ، واستضافة زوجها التقي النقي البر (٧) عثمان بن عفان (٨) ذي النورين زوج الابنتين، وصاحب الهجرتين.
* * *
ذلك أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حين أخذ يؤاخي بين المهاجرين والأنصار؛ اختار والد شداد بن أوس؛ ليكون أخا لصهره عثمان بن عفان.
كما اختار أم شداد؛ لتنزل ابنته رقية في جوارها …
فلقي عثمان وزوجته في كنف (٩) هذا البيت المؤمن من كريم الرعاية، وعظيم العناية ما يليق بمنزلتهما من رسول الله ﷺ.
وقد تيسر لشداد بن أوس - بسبب صلته بالرسول ﷺ أن يأخذ العلم من أصفى مناهله وأغزر موارده (١٠)؛ حتى قال عنه أبو الدرداء ﵁:
إن لكل أمة فقيها …
وإن فقيه هذه الأمة شداد بن أوس الأنصاري.
* * *
كما أتاحت له صلته بعثمان بن عفان ﵁ أن يتمرس (١١) على العبادة والزهادة على يدي علم من أعلام التقى والصلاح؛ فبلغ في هذا الميدان شأوا (١٢) لم تبلغه إلا القلة القليلة من الصحابة الكرام، ولم يحظ به إلا السابقون المقربون.
فقد روي عنه أنه كان إذا أوى إلى فراشه لينال قدرا من الراحة؛ ظل يتقلب في مضجعه؛ كأنه فوق نحاس محمي وهو يقول:
اللهم! إن نار جهنم أقلقتني؛ فما أستطيع أن أنام …
وأذهبت الكرى (١٣) عن عيني؛ فما أطيق أن أغفو.
ثم يقوم ويصلي حتى يسفر (١٤) الصبح.
* * *
وقد كان شداد بن أوس أحد القلائل الذين جمعوا العلم إلى الحلم؛ فقد كان عارفوه من الصحابة يقولون عنه:
إن من الناس من يؤتى علما ولا يؤتى حلما، وإن منهم من يؤتى حلما ولا يؤتى علما، وإن شداد بن أوس أوتي العلم والحلم معا.
* * *
وقد عرف الفاروق رضوان الله عليه ما يتحلى به شداد بن أوس من نبيل الخلال (١٥)، وجليل المزايا؛ فاستعمله واليا على حمص بعد أن تخلى عن ولايتها سعيد بن عامر (١٦).
فارتاح له أهلها، وكانوا لا يرتاحون لأحد …
ولقد ظل يلي (١٧) أمورهم حتى استشهد عثمان رضوان الله عليه؛ فتخلى عما أسند إليه، وعاد إلى المدينة المنورة.
* * *
أحس شداد بن أوس بعد مصرع الخليفة الشهيد أن الفتنة ذرت (١٨) بقرنها بين المسلمين، وخشي على نفسه من أن يدفع إلى المشاركة فيها دفعا.
فجمع أهله وأبناءه، ونزح (١٩) بهم عن مدينة رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ غير قال (٢٠) لها، ولا كاره …
وحط رحاله في فلسطين أرض القداسات، ومسرى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وأقام في مرابع أولى القبلتين وثالث الحرمين حتى عمر وشاخ.
غير أنه ظل - مع ذلك - شديد الحنين إلى مكة منبع النور؛ كثير التشوق إلى المدينة مهاجر (٢١) رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
حدث فتى من مجاشع؛ قال:
انطلقت من أرض الشام أنا وصحب لي قاصدين البيت الحرام؛ فإذا نحن بأخبية (٢٢) فيها فسطاط كبير؛ فقلت لأصحابي:
عليكم بصاحب هذا الفسطاط فإنه سيد من سادات القوم.
فلما بلغنا الفسطاط سلمنا، فرد السلام رجل كان قائما هناك؛ وهش لنا وبش.
وما هو إلا قليل؛ حتى خرج إلينا شيخ وقور جليل القدر …
فلما رأيناه هبناه مهابة لم نهب مثلها والدا قط ولا سلطانا …
فحيانا؛ فرددنا التحية بأحسن منها؛ فقال: ما أنتم؟.
فقلنا: نحن فتية خرجنا لنؤم (٢٣) البيت العتيق.
فنظر إلينا في حنو - وكأنما حركت كلمتنا أشجانه (٢٤) - وقال:
وأنا تحدثني نفسي بأن أمضي إلى البيت الحرام، وسأصحبكم إن شاء الله وأعان.
* * *
ثم نادى؛ فخرج إليه من تلك الأخبية شباب كثير كأنهم النجوم الزهر؛ فجمعهم، وخطبهم، وأوصاهم ثم قال:
إنكم يا بني لم تروا من الخير إلا أطرافه …
ولم تروا من الشر إلا أطرافه أيضا …
ولا يفتكم أن الخير كله بحذافيره (٢٥) في الجنة، وأن الشر كله بحذافيره في النار …
وأن الدنيا عرض (٢٦) حاضر يأكل منها البر والفاجر …
وأن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل …
وأن لكل من الدنيا والآخرة بنون …
فكونوا أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدنيا.
ثم أعلن لهم عزمه على الرحيل معنا إلى بيت الله الحرام؛ فجعلوا ينتحبون (٢٧) بكاء على فراقه، ويسألونه الرضى عنهم والدعاء لهم.
قال فتى مجاشع:
فقلت للواقفين حولي: من هذا الذي تفيض الحكمة من جوانبه؟!.
فقالوا: هذا شداد بن أوس صاحب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وابن صاحبه.
وما هي إلا لحظات؛ حتى دعا لنا بالسويق (٢٨) وجعل يبسه (٢٩) لنا بيده، ويطعمنا ويسقينا.
* * *
فلما أزف (٣٠) موعد الرحيل خرجنا معه، ومضينا في طريقنا حتى إذا بلغنا مكانا مرتفعا من الأرض؛ ألقينا فيه رحالنا طلبا للراحة؛ فقال لغلام من غلمانه:
اصنع لنا طعاما نتلهى به.
فعجبنا لكلمته هذه، وأنكر عليه (٣١) شاب منا قوله: "نتلهى به".
فندم على كلمته تلك، وقال:
جزاكم الله عني خيرا …
ثم أتبع قائلا - والأسى يصبغ وجهه -:
والله! ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام إلا وأنا أراقبها قبل أن أفضي بها؛ غير هذه …
فلا تحفظوها علي، ولا تشيعوها عني.
وإنما احفظوا عني ما أرويه لكم …
فقد سمعت رسول الله ﷺ يقول:
(إذا كنز الناس الذهب والفضة؛ فاكنزوا هذه الكلمات:
اللهم! إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد …
وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك …
وأسألك يقينا صادقا، وقلبا سليما …
وأسألك من خير ما تعلم …
وأعوذ بك من شر ما تعلم …
وأستغفرك لما تعلم …
إنك أنت علام الغيوب) …
* * *
رضي الله عن شداد بن أوس وأرضاه، وجعل جنات الخلد مثواه …
فلقد كان توابا أوابا؛ حفيا بالخير؛ بعيدا عن الشر …
مؤثرا لما يرضي الله ورسوله ﷺ (*).
_________
(١) وعاء من أوعية العلم: أي أنه حافظ للعلم؛ بالغ منتهى الحلم.
(٢) يمنعونه: يحمونه.
(٣) الذائد عنه: المدافع عنه.
(٤) مرهفات السيوف: السيوف المرققة المحددة.
(٥) غبش الظلام: ظلمة آخر الليل.
(٦) أتيح لشداد: يسر له.
(٧) البر: الصادق، المطيع لله.
(٨) عثمان بن عفان: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٩) في كنف: في رعاية.
(١٠) أغزر موارده: أكثرها.
(١١) يتمرس: يتدرب.
(١٢) شأوا: غاية وأمدا.
(١٣) الكرى: النوم.
(١٤) يسفر الصبح: يضيء.
(١٥) الخلال: الأخلاق والصفات.
(١٦) سعيد بن عامر: انظره في الكتاب الأول من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٧) يلي أمورهم: يتولى أمورهم.
(١٨) ذرت بقرنها: أي فرقت.
(١٩) نزح بهم: انتقل بهم.
(٢٠) غير قال لها: غير هاجر لها، ولا مبغض.
(٢١) مهاجر الرسول ﷺ: مكان هجرته.
(٢٢) الأخبية: الخيام، والفسطاط أكبرها.
(٢٣) لنؤم البيت العتيق: لنقصد الكعبة بمكة المكرمة.
(٢٤) أشجانه: أحزانه.
(٢٥) بحذافيره: بجملته.
(٢٦) عرض: متاع.
(٢٧) النحيب: شدة البكاء.
(٢٨) السويق: نقيع الشعير.
(٢٩) يبسه: يخلطه.
(٣٠) أزف: حان.
(٣١) أنكر عليه: رفض وعاب.
مختارات