فقه الإيمان بالله (١٩)
إن حقيقة الإيمان هي تصديق القلب بالله ورسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن، الذي لا يتزعزع، والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)} [الحجرات: ١٥].
إن القلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه لا بد أن يندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب، في واقع الحياة، في دنيا الناس.
يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة.
ولا يطيق الصبر على التفريق بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله، لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة.
ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس هو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن، يريد أن يحقق به الصورة الوضيئة التي في قلبه ليراها ممثلة في واقع الحياة، لتكون كما يريده الله ورسوله.
إن الخصومة بين المؤمن.
وبين الحياة الجاهلية من حوله.
إنما هي خصومة ذاتية.
ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني.
وواقعه العملي.
وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم.
في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن.
إنه لا بد للقلوب المؤمنة أن تنتبه إلى مزالق الطريق وأخطار الرحلة، لتعزم أمرها وتستقيم، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق، ويظلم الجو، وتعصف بها العواصف والرياح.
وموحيات الإيمان وموجباته متفاوتة في خلقه حسب أحوالهم وما يرونه، وما يعلمونه من الدلائل، ومنازلهم في الآخرة متفاوتة بحسب ذلك.
والله عزَّ وجلَّ ينادي المؤمنين ويأمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين ظاهره وباطنه، وأصوله وفروعه، ويعدهم على ذلك كفلين من رحمته لا يعلم قدرهما إلا الله تعالى، أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)} [الحديد: ٢٨].
إن الإنسان إنسان مهما وهب من النور، إنسان مهما عمل، إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق، إنسان يحتاج إلى المغفرة.
فتدركه رحمة الله.
والله غفور رحيم.
وحقيقة الإيمان الذي أرسل الله به رسله إلى عباده هو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد به العبد أن كل ما يصيبه من خير وشر فهو بإذن الله، وهي حقيقة لا يكون إيمانٌ بغيرها.
فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بما فيها من خير وشر.
وهذا ما ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن، فيحس يد الله في كل حدث، ويرى أمر الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من السراء والضراء، فيشكر للأولى، ويصبر للثانية، وينال بذلك مراتب الصابرين الشاكرين.
وقد يتسامى حسب إيمانه إلى آفاق فوق هذا.
فيشكر الله في السراء والضراء.
إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته.
بالتنبيه والتذكير له.
أو تكفير سيئاته.
أو رفعة درجاته.
أو ترجيح ميزان حسناته.
فيرى الخير في هذا وهذا.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ
خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (١).
فالمؤمن يؤمن بقدر الله، ويسلم له عند المصيبة، ويتيقن أنه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)} [التغابن: ١١].
والذي يؤمن بالله يهدي قلبه هداية مطلقة، ويفتحه على الحقيقة اللدنية، ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها، ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح، فهي هداية إلى شيء من علم الله يمنحه لمن يهديه حين يصح إيمانه، فيستحق هذا التكريم.
ومن لم يؤمن بالله عند ورود المصائب فإن الله يخذله ويكله إلى نفسه، والنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع، الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة.
إن الإيمان بالله حقيقة شهد بها الوجود كله والخلائق كلها.
فكل خليقة من خلائق الله حية ذات روح من نوعها.
وكل خليقة تعرف ربها الذي فطرها وتسبح بحمده.
وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه.
وتتغيظ لهذا الجحود المنكر.
الذي تنكره فطرتها.
وتنفر منه روحها.
فالله عزَّ وجلَّ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)} [الإسراء: ٤٤].
وذلك يدل على حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه، وتسبيح كل شيء بحمده، ودهشة الخلائق وارتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر، ويشذ عن هذا الموكب.
وتحفز هذه الخلائق الساكنة الصامتة، للانقضاض على الإنسان الكافر في غيظ وحنق، كالذي يطعن في عزيز كريم عليه، فيغتاظ ويحنق، ويكاد من الغيظ يتمزق، كما هو حال جهنم وهي تستقبل الكفار والعصاة: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: ٧، ٨].
ونار جهنم مخلوقة حية تكظم غيظها فترتفع أنفاسها في شهيق وهي تفور، ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ لما تنطوي عليه من بغض وكره الكفار والمنافقين والعصاة.
وقد حكى الله عزَّ وجلَّ دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها بقوله سبحانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)} [مريم: ٩٠ - ٩٣].
ألا ما أقبح الكفر بالله، وما أنجس أهله وأقذرهم.
وما أركسهم في الغي والضلال.
إن النفس التي تكفر بالله تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة، صورة بشعة منكرة جهنمية، صورة قبيحة لا يماثلها شيء في الكون.
فكل شيء روحه مؤمنة، وكل شيء يسبح بحمد ربه، ما عدا هذه النفوس الشاذة عن موكب الإيمان، الآبدة الشريرة، الجاسية النفور.
فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود، إنها تتزود إلى جهنم المتغيظة المتلمظة الحارقة.
وقد كشف الله تبارك وتعالى عن صورة الإنسان عند خلو قلبه من الإيمان بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)} [المعارج: ١٩ - ٢١].
فالإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان يكون هلوعاً جزوعاً منوعاً، فهو جزوع عند مس الشر يتألم للذعته، ويجزع لوقعه، ويحسب أنه دائم لا كاشف له.
فلا يتصور أن هناك فرجاً، ولا يتوقع من الله تغييراً، ومن ثم يأكله الجزع، ويمزقه الهلع.
ذلك أنه لا يأوي إلى ركن يشد من عزمه، ويعلق به رجاءه وأمله.
منوعاً للخير إذا قدر عليه يحسب أنه من كده وكسبه، فيضن به على غيره، ويحتجزه لنفسه، ويصبح أسير ما ملك منه، مستعبداً للحرص عليه، لا يدرك حقيقة الرزق ولا يعرف الرازق، ولا يطلع إلى خير منه عند ربه، وهو منقطع عنه، خاوي القلب من الشعور به.
فهو هلوع في الحالتين:
هلوع من الشر.
هلوع على الخير.
وتلك صورة بائسة للإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان، فهو دائماً في قلق وخوف.
سواء أصابه الشر فجزع، أو أصابه الخير فمنع.
فأما حين يعمر قلبه بالإيمان فهو منه في طمأنينة وعافية، لأنه متصل بخالق الكون ومدبر الأحوال مطمئن إلى قدره، شاعر برحمته، مقدر لابتلائه، متطلع إلى فرجه، منتظر لإحسانه، عالم أنه ينفق مما رزقه الله، وأنه سيجزيه على ما أنفق في سبيله، معوض عنه في الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون لا يصيبهم الجزع ولا الهلع، وقد أعطاهم الله الصلاة، فالصلاة فوق أنها ركن من أركان الإسلام وعلامة الإيمان هي وسيلة الاتصال بالله، ومظهر العبودية الخالصة، وهي صلة بالله مستمرة غير منقطعة للتعظيم والحمد، والسؤال والاستغفار، وتقديم التحيات كل يوم للعزيز الجبار.
فكلٌّ هالك خاسر: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣)} [المعارج: ٢٢، ٢٣].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٩٩٩).
مختارات

