أنماط: (25) نمط المزايداتي
ومن الأنماط المنتشرة أيضًا نمط الأخ المزايداتي..
هل جرَّبت يومًا أن تُتهم بما لم تفعل، أو تدفع عن نفسك أخطاءً ارتكبها غيرك؟!
هل خُضت من قبل حِوارًا حوَّله محاورك إلى تحقيق نازي، تقمَّص فيه ببراعة شخصية وكيل النيابة؟!
إن كنت قد فعلت فأنت ممن التقوا بصاحبنا الـ " مزايداتي "..
و " المزايداتي " شخص لا يتردَّد لحظة في اتهام مخالفه اتهامًا مباشرًا وسريعًا، بكل نقيصة!
سواءً كان يعرف مخالفه، أو لم يسمع به من قبل، يكفيه أن يُقيّمه من خلال سمته أو مظهره أو انتمائه الفكري، ليتحمل كل ما اقترفه أشباهه منذ فجر التاريخ إلى يوم الناس هذا!
وهو شخص لا يهتم كثيرًا بأمورٍ يعتبرها البعض موضوعية، فهي في نظره مجرد خرافات؛ أمور كالإنصاف والتثبت والتبين وإنزال الخلق منازلهم، المهم فقط بالنسبة له أن يمارس هوايته، التي صارت فيما بعد حرفته..
المزايدة!
إن كان جديدًا في الـ " كار " فسيغلف مزايداته بصيغة السؤال والاستفهام، وسيتقمَّص دور المحقق عند أول خلاف في الرأى بوضع قائمة أسئلته المملة من نوعية:
- أين كنتم يوم كذا؟
- وماذا فعلتم في شأن كذا؟
- ولماذا لم نسمع لكم صوتًا في الموقف الفلاني؟
- ولماذا لم تنتقِدوا الواقعة الفلانية؟
- وماذا قدَّمتم للقضية الترتانية؟
وهكذا دواليك..
ثم لا يلبث أن يُتْبع قائمة السؤالات التى يحسبها عسيرة، بقائمة اتهامات جزافية يجيب بها تلك الأسئلة، أو يتطوع لإجابتها مزايداتي منافس يتبرع بحسم التحقيق، وتعيين نفسه قاضيًا وربما جلادًا إن استطاع إلى ذلك سبيلًا.
غالبًا ما تكون تلك الأسئلة أو الاتهامات بصيغة الجمع المريحة، فهي أسهل الصيغ، وتوفر على الأخ " المزايداتي " مجهودًا كبيرًا في البحث والتحري عمَّن يزايد عليه وتاريخه ومواقفه، يكفيه فقط أنك تشبه فلان الذي فعل، وعِلَّان الذي سوَّى، وبالتالي فأنت مسؤول عن كل خياراتهم بحكم القرابة الأيديولوجية والشبه الظاهري.
الطريف أن الأخ " المزايداتي " ربما لا يعرف عنك إلا شكلك، وربما يفاجأ أن أغلب أسئلته إجابتها تنجيك من سيف اتهاماته ومقصلة مزايداته، لكن المشكلة تكمن في المبدأ نفسه.
إن مجرد قبولك لفكرة المزايدة المستمرة على مواقفك، والمحاسبة الدائمة على تاريخ حياتك، تجعلك ترضى من حيث لا تدري بالوقوف في قفص الاتهام وفي موضع الدفاع عن النفس، وهو مكان لم يكلفك شرع ولا منطق أن تقف فيه، فلست متهمًا أصلًا، وإن افترضنا -جدلًا- أنك كذلك فالبينة على من ادِّعى، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن هذا طبعًا في عُرف البشر الطبيعيين فقط.
أما " المزايداتي " فهو رجل يزرُ الوازِرةَ وِزرَ الأخرى، ولا يرتاح إلا بإدانتك..
وإن استطعت مرة تبرأة نفسك أمام مزايد، فسيسارع عشرات الزملاء من أبناء " الكار " نفسه ليُدينوك بمواقف لم تفعلها، ولا يُتصوَّر أنك ستسير يومًا حاملًا سيرتك الذاتية على صدرك.
فإن قَبِلَت أن تقف في ذلك الموقف، فإن ذلك غالبًا سيؤدي للأسف الشديد إلى أن تعمل ألف حساب دائمًا لأهل تلك الهواية أو المهنة، ومن ثم ستضعهم في اعتبارك قبل اتخاذ أي موقف مفترض أنك تدين به لربك، فإما أن تتردَّد في اتخاذ موقف أو رأي وربما لا تتخذه أصلًا، وإما أن تحرص على إرضائهم بموافقتهم على طول الخط درءًا لشرهم، وإما أن تغلق فمك تمامًا، وحينئذ تكون من حيث لا تدري حققت مبتغاهم، وباركت مسعاهم فكبت رأيك وكممت فمك وأخرست لسانك وقصفت قلمك بنفسك.
الحل يا صديقي ألا تشغل نفسك بأصحاب تلك الهواية، وألا تلتفِت لمزايداتهم، وألا تستسلِم لتحقيقاتهم..
فإن كنت يومًا ما قد صدعت برأي، أو اتخذت موقفًا على أساس من الموضوعية والصدق مع النفس، فلا يضيرك من خالفك، ولا ينفعك من وافقك، أما هؤلاء فلا تُعِرهم اهتمامًا، فإن إرضاءهم ليس غاية ولا هو يدرك، وهم إنما يخفون ضعفهم بالنيل من صاحب الفكرة بدلًا من مناقشتها، ولو كانوا أقوياء حقًا لانشغلوا بالكلمة عن المتكلِّم، وبالحجة عن المحاجج فدعك منهم، وانشغل فقط بمن إرضاؤه غاية وتدرك.
إن الحق حق بذاته وليس تبعًا لحامله، ولن يغير كونه حقًا تشويه مصدره، أو تعميم أفعال غيره عليه..
الكل يعلم ذلك ويدركه ما عدا أصحابنا هؤلاء، فإن المزايدة هوايتهم، والتعميم سبيلهم، والتشويه حِرفتهم، وتحطيم نفوس المخالفين أسمى أمانيهم، لذلك استحق أفرادهم هذا اللقب الذي أهديهم إِيَّاه..
مختارات