فقه الإيمان بالله (١٨)
والإيمان يزيد وينقص، وكلما زاد الإيمان في القلب، ازدادت الطاعات، وزاد الخوف والخشية في قلوب المؤمنين كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)} [المؤمنون: ٥٧ - ٦١].
فهؤلاء المؤمنون مشفقون من ربهم، وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به، وهم ينهضون بتكاليف الدين وواجباته، وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا، ولكنهم بعد هذا كله قلوبهم وجلة لإحساسهم بالتقصير في حق الله بعد أن بذلوا ما في طوقهم وهو في نظرهم قليل؛ لأن ما يجب لله أعظم.
إن قلب المؤمن يشعر بفضل الله عليه ومنته في كل آن.
ويحس آلاءه في كل نفس.
وفي كل حركة.
ومن ثم يستصغر كل عباداته.
ويستقل كل طاعاته.
إلى جانب آلاء الله ونعمائه.
كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله.
ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشعر بالحياء، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه.
لم يوف ربه حقه عبادةً وطاعةً، ولم يقارب أياديه عليه معرفةً وشكراً.
وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم الذين يسبقون لها لما عرفوا قدرها وثمنها، ومن ثم ينالونها في الطليعة بهذه اليقظة، وبهذا التطلع، وبهذا العمل، وبهذه الطاعة.
وكلما كان القلب ندياً بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة الإيمان، وأدرك من معاني القرآن وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف.
واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف.
وجميع النظم والشرائع، والآداب والسنن التي يتضمنها هذا القرآن إنما تقدم قبل كل شيء على الإيمان.
فالذي لا يؤمن بالله، ولا يتلقى القرآن على أنه وحي من الله لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي، ولا يسر بما فيه من بشارات.
إن في القرآن كنوزاً ضخمة من الهدى والمعرفة، والحركة والتوجيه، والآداب والسنن، والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز، ولا يمكن أن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩)} [الإسراء: ٩].
والذين آمنوا حق الإيمان حققوا المعجزات بهذا القرآن.
أما حين يكون القرآن كتاباً يترنم المترنمون بآياته، تستلذ بها الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب، فحينئذ لا ينتفع به أحد، ويظل كنزاً بلا مفتاح كما قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤)} [محمد: ٢٤].
إن الإيمان أعظم نعمة أنعم الله بها على البشرية فمنهم من قبلها، ومنهم من ردها، والإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال.
فلا يكفي أن يقول الناس آمنّا، بل لا بد أن يتعرضوا للفتنة، ليخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به.
وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب، وهذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية لا تتبدل في ميزان الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)} [العنكبوت: ٢، ٣].
والله تبارك وتعالى يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مستور عن علم البشر.
فيحاسب الله الناس على ما يقع من عملهم، لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم.
وهذا فضل من الله في جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذون أحداً إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة ما في قلبه.
إن الإيمان بالله أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، الذين يؤثرونها على كل شيء.
وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة، فهي أمانة كريمة وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله، يضطلع بها الناس، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على البلاء.
وما يستوي عند الله الإيمان والكفر، ولا المؤمنون والكفار، ولا الأبرار والفجار، فلكل فكر، ولكل عمل، ولكل علامة، ولكل جزاء.
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: ١٨ - ٢٠].
إن بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة صلة، كما أن بين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة كما قال سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢)} [فاطر: ١٩ - ٢٢].
إن الإيمان نور في القلب، ونور في الجوارح، ونور في الحواس، نور يكشف حقائق الأشياء والقيم، وينسبها إلى خالقها ومدبرها ومالكها وهو الله، فالمؤمن ينظر بهذا النور.
أما الكفر فهو عمى في القلب، يعمي عن رؤية دلائل الحق، وعمى عن رؤية حقائق الوجود، وحقائق الأشياء والقيم.
والإيمان بصر يرى رؤية حقيقية صادقة، ويمضي بصاحبه في الطريق على نور مبين، والكفر ظلمات، وكلما أبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع، تعز فيها الرؤية لشيء من الحق.
والإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس، ويرتاح له القلب، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل.
والكفر هاجرة حرور تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق، وعدم الاستقرار على هدف، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير، ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك.
والإيمان فيه حياة القلوب والمشاعر، وهو حياة في القصد والاتجاه، وهو حركة بانية مثمرة قاصدة لا خمود فيها ولا همود.
والكفر موت في الضمير، وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل، وانفصال عن الطريق الواصل، وعجز عن الانفعال والاستجابة.
ولكل طبيعته.
ولكل عمله.
ولكل جزاؤه.
ولن يستوي عند الله هذا وهذا: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)} [الحشر: ٢٠].
والإيمان يذكر الإنسان دائماً بالنعم الكبرى التي سخرها الله له في هذا الكون، ويذكره بالمنعم الوهاب، ومن ثم يوجهه إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعم، وشكر المنعم، وتذكره بالله كلما عرضت النعمة، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة.
فسبحان المنعم الذي خلق كل شيء، وتفضل على عباده بكل شيء: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠)} [لقمان: ٢٠].
والمؤمن هو الذي ينسب النعم كلها للمنعم سبحانه، ويعلم أنه ليس بقادر على مقابلة نعم الله بمثلها، وأنه لا يملك إلا الشكر مقابل النعم.
والأدب الواجب في حق المنعم أن المؤمن كلما استمتع بنعمة من نعم الله التي تغمره والتي يتقلب في أعطافها كل حين أن يذكر ربه حامداً له مثنياً عليه، ليبقى القلب موصولاً بربه، ذاكراً عابداً خاشعاً شاكراً في جميع أحواله.
وهذا الشعور كفيل باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة تامة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله، ولا تخمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان، فمع كل نعمة ذكر للمنعم وثناء عليه: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)} [الزخرف: ١٢ - ١٤].
وهذا الكون مملوء بالنعم التي لا يحصيه أحد إلا الله، وكلها مسخرة للعباد، فينبغي لهم أن يملأوا جميع أوقاتهم بذكر المنعم، وحمده وشكره على نعمه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)} [الأحزاب: ٤١ - ٤٣].
والله غفور رحيم، فمن لم تستقر حقيقة الإيمان في قلبه، ولم تشربها روحه، فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح صدر منهم لا يُنقِص منه شيئاً.
فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيماناً حقيقياً.
هذا الإيمان يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة، فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار التي لم تُبنْ على أساس، ولا ينقص من أجرها شيء ما بقوا على الطاعة والاستسلام كما قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)} [الحجرات: ١٤].
ذلك أن الله جواد كريم.
غفور رحيم.
يقبل من العبد أول خطوة.
ويرضى منه الطاعة والتسليم.
إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة.
إن الله غفور رحيم.
مختارات

