فقه الإيمان بالله (٢٠)
وهؤلاء المؤمنون كما يؤدون الصلاة التي تصلهم بربهم، يؤدون الزكاة والصدقات المعلومة القدر، ويجعلون في أموالهم نصيباً معلوماً يشعرون أنه حق للسائل والمحروم كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)} [المعارج: ٢٤، ٢٥].
ومن صفاتهم أنهم يصدقون بيوم الدين شطر الإيمان، وهو ذو أثر حاكم في منهج الحياة شعوراً وسلوكاً: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦)} [المعارج: ٢٦].
فالذي يصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا، ويتقبل الأحداث خيرها وشرها، وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها يوم القيامة.
ويقضي حياته مطيعاً لربه، منتظراً جزاءه يوم يلقاه.
أما المكذب بيوم الدين فلا يعرف إلا الدنيا، فهو يحسب كل شيء يقع له في هذه الحياة القصيرة المحدودة، فهو بائس مسكين، معذب قلق، لأن ما يقع له في هذه الحياة الدنيا قد لا يكون مطمئناً ولا مريحاً ولا عادلاً ولا معقولاً ما لم يضف إليه حساب الشطر الآخر، وهو أكبر وأطول وأهول، ومن ثم يشقى به من لا يحسب حساب الآخرة.
ومن صفاتهم أنهم يقضون أوقاتهم يراقبون ربهم، ويشعرون بالتقصير في جناب الله مع كثرة عبادتهم، والخوف من تلفت القلب، واستحقاقه للعذاب في كل لحظة، والتطلع إلى الله ليحميهم ويقيهم العذاب: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)} [المعارج: ٢٧، ٢٨].
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائم الحذر دائم الخوف، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة إلا بفضل الله ورحمته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» قَالُوا: وَلا أنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (١).
إن القلب المؤمن الموصول بالله يحذر ويرجو، ويخاف ويطمع، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال، منتظر لكرامته في الدنيا والآخرة.
إن الإيمان بالله هو أصل الدين الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره.
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة.
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال لتسير في طريق واحد، لها منبع واحد، ودافع معلوم، وهدف مرسوم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)} [آل عمران: ٥٣].
والقرآن يهدر كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل، ولا يشد إلى هذا المحور، ولا ينبع من هذا المنهج.
فلا قيمة لعمل مهما كان ومهما كثر ومهما ظن الناس فيه خيراً ما لم يستند إلى الإيمان كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩)} [النور: ٣٩].
والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، وهو الحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب.
فلا يمكن أن يظل الإيمان خامداً لا يتحرك، كامناً لا يظهر في صورة حية خارج ذات المؤمن.
فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت أو معلول.
فالإيمان يولد العمل الصالح فوراً.
ويخنق كل عمل فاسد.
ويطرد كل خلق سافل.
فمثلاً إذا عرفت الله، وآمنت به، بادرت إلى فعل ما يحب واجتناب ما يكره.
وإذا دخل عليك من يعطيك مالاً، ودخل عليك من يأخذ منك صدقة فبأيهما تفرح؟.
فصاحب الدنيا يفرح بمن يعطيه مالاً، والمؤمن يفرح بمن يأخذ منه الصدقة، فالذي يعطيني مالاً يعطيني الدنيا، والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة، ويحمل زادي إلى الآخرة بغير أجر: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: ٢٠].
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالََ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا.
قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا» أخرجه الترمذي (٢).
والكلمة غير الطيبة تفسد الصدقة، فالذي يتبع الصدقة بالأذى ليست وجهته الآخرة، وليس إيمانه كاملاً.
إذ كيف يهين ويؤذي من جاء يحمل حسناته إلى الآخرة بغير أجر؟.
أيأتي إنسان يحمل زادي موفوراً إلى الآخرة فأهينه وأوذيه؟.
أيكون هذا إيماناً؟.
هذا لا يكون أبداً.
الإيمان يدعوني لأكرمه والترحيب به، وأفرح به، لأنه سيؤدي لي خير ما في الدنيا من الحسنات بلا أجر، ولذلك أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إلى الأيتام والفقراء ومواساتهم بحسن الكلام وأجمل المال كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)} [الضحى: ٩ - ١١].
والله عزَّ وجلَّ لا يريد قوالب تخضع ولكنه يريد قلوباً تخشع، لأن إخضاع القالب يمكن أن يأتي بالرغم منه، فقد تكره على فعل شيء وأنت لا تحبه فتفعله.
والقلب هو المنطقة الحرة التي خلقها الله في الإنسان، ولا تستطيع قوة في الأرض مهما كانت أن تقهرها على فعل شيء من حب او بغض أو غيرهما من أعمال القلوب، فما في القلب ملك خاص بصاحبه فقط.
فقد يكرهك إنسان فتتظاهر له بالحب، ولكن قلبك يظل يكرهه ويرفضه، وقد تتظاهر لإنسان بالخضوع، ولكن قلبك يمقته، ولذلك أذن الله للجوارح بالمخالفة عند الإكراه ما دام القلب مطمئناً بالإيمان كما قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)} [النحل: ١٠٦].
والإكراه في هذه الحالة إكراه للقالب وليس للقلب، فلا إثم فيه ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، فالله راضٍ ولو أجبر القالب على غير ذلك، وقد أسقط الله الحساب عن كل من أكره قالبه على شيء وقلبه يرفضه.
وكل ما في الحياة هو اختبار إيماني في العبادة، قد جعله الله اختباراً للبشر ليفضلهم على سائر مخلوقاته، ويجزيهم عليه جزاءً كبيراً.
وإذا كان الله سبحانه قال عن الإنسان: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠].
فتلك الخلافة هي ذلك الاختبار الإيماني.
الذي يمر به كل إنسان.
هل يتبع منهج الله في حياته أم يخالفه؟.
فالله له أوامر.
والنفس لها أوامر.
والإيمان هو الذي يدفع الإنسان لتقديم أوامر الله على محبوبات النفس.
وفي كل لحظة ينزل من ذات الله ما لا يحصيه إلا الله من الأوامر، ومن ذات الإنسان تخرج الأفعال، فإذا طابقت أفعال الإنسان مراد الله، وهو ما جاء في شرعه، سميت تلك الأعمال صالحة، يرضى به الرب، ويثيب عليها الجنة.
وإذا خالفت أفعال الإنسان مراد الرب، فتلك الأعمال غير صالحة، وهي السيئات التي تغضب الرب، ويعاقب عليها بالنار.
فالإيمان والإحسان واليقين أعلى الدرجات التي يصل إليها الإنسان في هذه الحياة.
والكفر والشرك، والظلم والفسوق، أسفل الدركات التي ينحط إليها الإنسان في هذه الحياة.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٦٧٣)، ومسلم برقم (٢٨١٦) واللفظ له.
(٢) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (٢٤٧٠)، صحيح سنن الترمذي رقم (٢٠٠٩).
مختارات

