فقه الإيمان بالله (١٧)
وقد وعد الله المؤمنين بالفلاح في الدنيا والآخرة، وعد الله لا يخلف الله وعده.
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد؟.
ومن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم الخير والنصر، والسعادة والتوفيق، والمتاع الطيب في الأرض؟.
ومن هم المؤمنون المكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟.
ومن هم المؤمنون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟.
ما وصفهم؟، وما هي صفاتهم؟، وبماذا وعدهم الله؟.
إنهم الذين قال الله تعالى فيهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)} [المؤمنون: ١ - ١١].
أول صفة لهؤلاء المؤمنين أنهم في صلاتهم خاشعون، تستشعر قلوبهم رهبة الموقف بين يدي الله في الصلاة فتسكن وتخشع، ويسري الخشوع منها إلى الجوارح، ويغشى أرواحهم جلال الله، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه، فهم مشغولون بنجواه.
ويتوارى عن حسهم عند مناجاة ربهم كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه.
ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة.
فتتصل هذه الروح بخالقها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه فيسكن إلى ربه ويطمئن إليه، ويتلذذ بمناجاته.
والصفة الثانية: الإعراض عن اللغو كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)} [المؤمنون: ٣].
فهم معرضون عن كل لغو، لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور.
إن قلب المؤمن له ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر واللعب.
وله ما يشغله من ذكر الله وتصور جلاله، وتدبر آياته في الأنفس والآفاق.
وله ما يشغله في تكاليف العقيدة من تطهير القلب وتزكية النفس، وتكاليفها في السلوك والثبات على الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها، وحمايتها من كيد الأعداء.
وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه، وأمانة في عنقه.
والصفة الثالثة: أداء الزكاة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)} [المؤمنون: ٤].
والزكاة فيها طهارة القلب والمال، طهارة القلب من الشح، والاستعلاء على حب الذات، والانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء.
وهي طهارة للمال تطهره من الأوساخ، وتجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالاً.
وهي صيانة للأمة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب.
والترف في جانب آخر.
والصفة الرابعة: حفظ الفروج كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)} [المؤمنون: ٥، ٦].
وفي هذه طهارة الروح والبيت والجماعة، ووقاية النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة المحرمة، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير الحلال، وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب.
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد، وهي جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية.
والله عزَّ وجلَّ ينظم الدوافع الفطرية عند الإنسان في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل معها الأطفال من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه، لا كالحيوان الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء؟.
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة، وهي الزوجات، وملك اليمين.
فمن تجاوزها إلى غيرها فقد عدا الدائرة المباحة ووقع في المحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد.
وهنا تفسد النفس البشرية لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح.
ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان.
وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا وهناك.
فأي فساد وخراب للبلاد والعباد فوق هذا؟.
الصفة الخامسة: حفظ الأمانات والعهود كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨)} [المؤمنون: ٨].
فهم يرعون الأمانة الكبرى، فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها.
فتظل قائمة بأماناتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، ثم تأتي سائر الأمانات في عنق الفرد، في عنق الجماعة، في عنق الأمة.
والعهد الأول هو عهد الفطرة الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان به وتوحيده، وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق.
فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيداً عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته.
والأمة المسلمة مسئولة عن أماناتها العامة، ومسئولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات.
وما تستقيم حياة الأمة إلا أن تُؤدَى فيها الأمانات، وتُرعى فيها العهود.
الصفة السادسة: المحافظة على الصلاة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩)} [المؤمنون: ٩].
فهم على صلاتهم يحافظون، فلا يفوتونها كسلاً ولا يضيعونها إهمالاً، ولا يقصرون في إقامتها، إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وتستقيم الجوارح.
وقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بها، للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوضعها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله.
فهذه صفات المؤمنين المكتوب لهم الفلاح، وهذا نوع الحياة التي يعيشونها.
تلك الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله.
وأراد له التدرج في مدارج الكمال.
ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر للبشر، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق إلى الغاية المقدرة لهم في الآخرة، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والاستقرار بلا زوال، والنعيم بلا شقاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْفِيهَا خَالِدُونَ (١١)} [المؤمنون: ١٠، ١١].
مختارات

