ذكر قصة ابني آدم قابيل وهَابيل (٢)
وقد ذكر مجاهدٌ: أنَّ قابيلَ عُوجل بالعقوبة يومَ قتلَ أخاه، فعلقتْ ساقُه إلى فخذه، وجُعِلَ وجهُه إلى الشمس كيفما دارتْ تنكيلًا به، وتعجيلًا لذنبه وبغيهِ وحسده لأخيه لأبويه.
وقد جاء في الحديث: عن رسول اللَّه ﷺ أنه قال: "ما منْ ذَنْبٍ أجدر أن يُعجِّلَ اللَّه عقوبتَه في الدنيا مع ما يدَّخرُ لصاحبه في الآخرة من البَغْي وقطيعةِ الرحم".
والذي رأيتُه في الكتابِ الذي بأيدي أهلِ الكتاب، الذين يزعمونَ أنه التوراة، أنَّ اللَّه ﷿ أجَّله وأنظرَه، وأنَّه سكنَ في أرض "نَوْد" في شرق عَدن، وهم يُسمُّونه "قنين" وأنه ولد له "خنوخ" ولخنوخ "عندر" ولعندر "محوايل" ولمحوايل "متوشيل" ولمتوشيل "لامك" وتزوَّجَ هذا امرأتين "عذا" "وصلا" فولدت عذا ولدًا اسمه "إبل" وهو أوَّلُ من سكنَ القِباب واقتنى المالَ، وولدت أيضًا "نويل" وهو أوَّل من أخذَ في ضرْبِ الوَنج والصَّنَج (١).
وولدت صلا ولدًا اسمه "شوبلتين" وهو أوَّلُ من صنعَ النحاس والحديد، وبنتًا اسمها "نعمى".
وفيها أيضًا أن آدم طافَ على امرأته فولدتْ غلامًا، ودعت اسمه "شيث" وقالت: من أجل أنه قد وهبَ لي خَلْفًا من هابيل الذي قتلَه قابيل، ووُلد لشيث "أنوش".
قالوا: وكان عمرُ آدم يوم وُلد له شيث مئة وثلاثين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة، وكان عمرُ شيث يومَ ولد له أنوش مئة وخمسًا وستين وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة وسبع سنين، ووُلد له بنون وبنات غير أنوش.
فولد لأنوش "قَيْنان" وله من العمر تسعون سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة وخمس عشرة سنة، ووُلد له بنون وبنات.
فلما كان عمر قَيْنان سبعين سنة ولد له "مهلاييل" وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة وأربعين سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لمهلاييل من العمر خمس وسبعون سنة ولد له "يرد" وعاشَ بعد ذلك ثمانمئة وثلاثين سنة، ووُلد له بنون وبنات.
فلما كان ليرد مئة سنة واثنتان وستون سنة ولد له "خنوخ" وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لخنوخ خمس وسبعون سنة ولد له "متوشلح" وعاش بعد ذلك ثلاثمئة سنة، ووُلد له بنون وبنات.
فلما كان لِمُتَوَشْلِخ مئة وسبع وثمانون سنة ولد له "لامك" وعاش بعد ذلك سبعمئة واثنتين وثمانين سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان للامك من العمر مئة واثنتان وثمانون سنة ولد له "نوح" وعاش بعد ذلك خمسمئة وخمسًا وتسعين سنة، وولد له بنونَ وبنات، فلما كان لنوحٍ خمسمئة سنة، وُلد له بنوه "سام" و"حام" و"يافث".
هذا مضمون ما في كتابهم صريحًا.
وفي كون هذه التواريخ محفوظة فيما نزلَ من السماء نظرٌ كما ذكرَه غيرُ واحد من العلماء طاعنين عليهم في ذلك، والظاهر أنها مقحمة فيها، ذكرَها بعضهم على سبيل الزيادة والتفسير، وفيها غلط كثير كما سنذكره في مواضعه إن شاء اللَّه تعالى.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" عن بعضهم: أنَّ حواءَ ولدت لآدم أربعينَ ولدًا في عشرين بطنًا، قاله ابن إسحاق، وسمَّاهم، واللَّه تعالى أعلم.
وقيل: مئة وعشرين بطنًا، في كلِّ واحدٍ ذكرٌ وأنثى.
أولهم "قابيل" وأخته "قليما" وآخرهم "عبد المغيث" وأخته "أم المغيث".
ثم انتشرَ النَاسُ بعد ذلك وكثروا، وامتدُّوا في الأرض ونموا، كما قال اللَّه تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: ١] الآية.
وقد ذكرَ أهلُ التاريخ أنَّ آدمَ لم يمتْ حتَّى رأى من ذرِّيتهِ من أولاده وأولاد أولاده أربعمئة ألف نسمة، واللَّه أعلم.
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٩ - ١٩٠].
الآيات فهذا تنبيه أولًا بذكر آدم، ثم استطرد إلى الجنس، وليس المراد بهذا ذكر آدم وحواء، بل لما جرى ذكر الشخص استطرد إلى الجنس، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٣] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥] ومعلوم أن رجومَ الشياطين ليست هي أعيانُ مصابيح السماء، وإنما استطردَ من شخصها إلى جنسها.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا عمر بن إبراهيم، حدَّثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرةَ، عن النبي ﷺ، قال: "لما ولدت حوَّاءُ طافَ بها إبليسُ، وكان لا يعيشُ لها ولد، فقال: سمِّيه عبدَ الحارث فإنَّه يعيشُ، فسمَّته عبدَ الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره".
وهكذا رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه في تفاسيرهم عند هذه الآية.
وأخرجه الحاكم في مستدركه، كلُّهم من حديث
عبد الصمد بن عبد الوارث، به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه.
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه.
فهذه علة قادحة في الحديث أنه روي موقوفًا على الصحابي وهذا أشبه، والظاهر أنه تلقاه من الإسرائيليات، وهكذا رُوي موقوفًا على ابن عباس.
والظاهر أن هذا مُتلقَّى عن كعب الأحبار ودوّنه، واللَّه أعلم.
وقد فسَّر الحسنُ البصريُّ هذه الآيات بخلاف هذا، فلو كان عنده عن سَمُرة مرفوعًا لما عدلَ عنه إلى غيره، واللَّه أعلم.
وأيضًا فاللَّه تعالى إنما خلقَ آدم و حوَّاء ليكونا أصلَ البشر، وليبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، فكيف كانت حوَّاء لا يعيشُ لها ولد كما ذُكرَ في هذا الحديث إن كان محفوظًا؟! والمظنون بل المقطوع به أن رفعَه إلى النبي ﷺ خطأ، والصوابُ وقفه، واللَّه أعلم.
وقد حرَّرنا هذا في كتابنا التفسير وللَّه الحمد.
(١) الوَنْج: ضرب من الأوتار أو العود أو المعزف.
والصَّنجُ: شيء يتخذ من صُفْر (نحاس) يُضرب أحدهما على الآخر.
مختارات