التصحّر الإيماني
فيزيائياً ليس هناك صعود يعقبه نزول مباشر، لا بد من توقف تام ولو لأجزاء من الثانية ثم يأتي النزول.. فالكرة التي يركلها اللاعب إلى الأعلى لا تهبط حتى تكون قد وقفت في الجوّ وقوفاً تامّاً قد تعجز العين عن إدراكه..
وإيمانيّاً لا يمكن أن يحصل الخمود الإيماني بعد حالة التوهّج ما لم يمرّ بحالة الانطفاء.. تماماً كذاك الانطفاء الذي يحصل للجمر قبل أن يخمد ويبرد تماماً..
تتصحّر المعاني الإيمانية في نفوسنا.. فنفقد العدسة التي كانت ترينا الأشياء بروعة خاصة وظلال مختلفة.. ينزعنا ذاك التصّحر من مشاعرنا الأولى..
ليس هناك لمسة قرآنية في كلمات المتصحّر، ونبرته حين يقول " الله " هي نبرته حين يقول: مال، حياة، حضارة.. كلّها تخرج من اللسان.. القلب لا يتدخل في إضفاء عمق ما على بعض الكلمات التي كانت مقدّسة عنده..
لقد تصحّرنا جميعاً إلا من رحم الله، صرنا نعيش في غربة عن مبادئنا الأولى، أيام كان نجتمع في مجلس فقط لنذكر الله ثم ننصرف.. الآن باتت تلك المعاني تقبع في زوايا ذكرياتنا.. ترمقنا بحسرة، ونرمقها نحن على أنها كانت حماساً وتشدداً.. وننسى أن حماسنا ونحن في صبانا أشبه ما يكون بفتور السلف الذين ماتوا وهم: يجلسون لله ويجتمعون لله وينصرفون لله ويبكون لله..
ويبكون الله !! يااااه لقد نسينا هذا الشيء.. ألم أقل لك أنه تصحر؟ جفاف؟ قحول.. وكانت صحارينا رياضاً وأنهاراً فأجدبتنا سنين الغفلة ولم يأن بعد أن تخشع قلوبنا لذكر الله وما نزل من الحق..
كان شيء من نقاشنا يدور حول كثرة الباكين من خشية الله في المساجد ! والآن نسمع في مساجدنا أعذب الأصوات ترتّل أعظم الآيات.. ثم لا نكاد نسمع شهقة خوف.. أو نحس بدمعة خشية..
مظاهر الكثير منا مازالت محتفظة بتفاصيلها الصحويّة الجميلة، ولكن ذاك الرحيق الصحوي نضب:
أما الديار فإنها كديارهم ** " وأرى رجال الحيّ غير رجالها "
وهذا الضعف الإيماني حدث ويحدث للصالحين قديماً وحديثاً، ولكن الغريب فينا أننا ما إن نتوقف عن الصعود إيمانيّاً حتى نمارس هواية التدحرج، وكأننا نريد أن ندفن نعش قناعاتنا في أسرع وقت..
أجمل حواراتنا هي عن مسلّمات الماضي، نأخذ في هتك تماسكها في نفوسنا عروة عروة.. حتى إذا انتهت المدّة الطبيعية لفتورنا.. وأوشكت قلوبنا أن تعود إلى أيام الخشوع من ذكر الله لم تجد معها من القناعات ما يوصلها إلى رياضها الخضراء القديمة.. فتقبع في الجدب !
الجميع يستغرب منّا حين نأخذ في العبث بقناعاتنا وقناعاتهم، ونحن نظن أننا بتنا أقرب إليهم، وصارت أحاديثنا أكثر حظوة عندهم.. والحقيقة أنهم يصنّفوننا كَذَبة.. ويعتبروننا غشَشَة.. نخون ما كنّا نوصيهم بهم في الماضي.. فتجد لدى هؤلاء المستمعين لأحاديثنا وجدلنا من نقاء الإيمان وصفاء النفوس وصدق الحميّة أضعاف ما تجده عند متصحّر ما، لم يتوقّف بل تدحرج !
أخنع الناس هم أولئك الذين يستغلّون ثقافتهم في الدين لهتك عرى الدين، وفهمهم لشيء من القرآن لطمس هدايات القرآن، وحفظهم لأحاديث النبي لدفن شيء من تعاليم النبي.. ليس لأنهم علمواً شيئاً جديداً، بل لأنّهم فقدوا كنزاً ثميناً.. كنز حياة القلب !
إن تحدّث عن الصلاة لم يتطرّق للخشوع وإنما للتشدّد في قول وجوبها جماعة !
وإن تحدّث عن الحجاب لم يأت على أهميّته، وإنما على فتوى الألباني في جواز كشف الوجه، وأن الخلاف في ما يجب كشفه معتبر !
وإن تحدّث عن الأمر بالمعروف لم يتحدّث عن عظم الشعيرة، وإنما عن هفوات المنفذين لها..
ليس شرطاً أن يتبع هذه المرحلة انتكاساً صريحاً، وإن كانت هذه المرحلة انتكاسة صُغرى في ذاتها، إلا أنها قد تتوقّف عند هذا الحد غير الهيّن.. هذا الحد الذي يحتفظ فيه صاحبه بمسوح المستقيم وإن كانت جميع آبار الإيمان في قلبه قد نضبت، ولم يبق منها إلا مجسّمات شمعيّة لا تتحرّك ولا تنبض بحياة.. ثم يظل السنين هكذا، صاداً عن ذكر الله بحواراته، واقفاً ببروده دون حماسة الآخرين، دائماً ما يجعل الشباب النشطين دينياً يشعرون بحضرته أنهم يمارسون شططاً وشيئا من الغلوّ.. ولو دقّق في حاله لعلم أنه قد توقف منذ زمن..
لقد كثر المتصحّرون، بل صرنا جميعاً متصحّرين بنسب متفاوتة.. واكتظت مجالسنا بنا، وبأحاديثنا، وبقحولنا الإيماني.. وعزّ ذاك الأسيف الذي يذكرك خشوعه بالله.. وإن لمحت طيفه فلتصفه بالدروشة وأخواتها !
هكذا ترانا في مجالسنا صحراء بجوار صحراء.. مرصوفون وكأننا كثبان رمليّة.. لا تسمع من أحاديثنا إلا نواح الرياح.. ليس هناك مطر.. ليس هناك مطر
" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله.. وما نزل من الحق؟ "
مختارات