ذكر قصَّةِ ابنيْ آدم قابيل وهَابيل (١)
قال اللَّه تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَرَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: ٢٧ - ٣١].
قد تكلَّمنا على هذه القصَّة في سورة المائدة في التفسير بما فيه كفاية، وللَّه الحمد.
ولنذكر هاهنا ملخص ما ذكرَه أئمةُ السَّلف في ذلك.
فذكرَ السُّدِّي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عبَّاس.
وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من الصحابة: أنَّ آدم كان يُزوِّجُ ذكرَ كلِّ بطنِ بأنثى الآخر، وأنَّ هابيلَ أراد أن يتزوَّجَ بأخت قابيل، وكان أكبرَ من هابيل، وأختُ هابيل أحسنُ، فأراد هابيلُ أنْ يستأثرَ بها على أخيه، وأمرَه آدمُ أن يزوِّجه إيَّاها فأبَى، فأمرَهما أن يُقرِّبا قربانًا، وذهبَ آدمُ ليحجَّ إلى مكَّة، واستحفظ السماوات على بنيه فأبينَ، والأرضين والجبال فأبينَ، فتقبَّل قابيلُ بحفظ ذلك.
فلما ذهبَ قرَّبا قربانَهما، فقرَّبَ هابيلُ جَذْعةً سمينة، وكان صاحبَ غَنم، وقرَّبَ قابيلُ حزمةً من زَرْعٍ، من رديء زَرْعه، فنزلت نارٌ فأكلتْ قربانَ هابيل، وتركتْ قربانَ قابيل، فغضبَ وقالَ: لأقتلنَّكَ حتى لا تنكحَ أختي.
فقال: إنما يتقبَّلُ اللَّه من المتقين.
ورُوي عن ابن عباس من وجوه أُخر، وعن عبد اللَّه بن عمرو، وقال عبد اللَّه بن عمرو: وايم اللَّه إن كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعَه التحرُّج أن يبسطَ إليه يدَه.
وذكر أبو جعفر الباقر: أنَّ آدمَ كان مباشرًا لتقرُّبهما القربانَ والتَّقبُّل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تَقبَّلَ منه لأنَّكَ دعوتَ له ولم تدعُ لي، وتوعَّد أخاه فيما بينَه وبينَه، فلما كان ذات ليلةٍ أبطأ هابيلُ في الرعي، فبعثَ آدمُ أخاه قابيلَ لينظرَ ما أبطأ به، فلما ذهبَ إذا هو به، فقال له: تقبَّل منكَ ولم يتقبلْ منِّي.
فقال: إنما يتقبل اللَّه من المتقين، فغضبَ قابيلُ عندَها وضربَهْ بحديدةٍ كانت معه، فقتلَه.
وقيل: إنه إنما قتلَه بصخرة رماها على رأسِه وهو نائمٌ فشدخته (١).
وقيل: بل خنقَه خنقًا شديدًا وعضًّا كما تفعلُ السِّباعُ فمات.
واللَّه أعلم.
وقوله له لما توعَّده بالقتل: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ٢٨] دلَّ على خُلُقٍ حَسَن، وخَوْفٍ من اللَّه تعالى وخشية منه، وتورُّعٍ أن يُقابلَ أخاه بالسوء الذي أراد منه أخوه مثلَه، ولهذا ثبتَ في الصحيحين: عن رسول اللَّه ﷺ؛ أنه قال: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّار".
قالوا: يا رسول اللَّه! هذا القاتلُ فما بالُ المقتول؟ قال: "إنَّه كانَ حريصًا على قتلِ صاحبه".
وقوله: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٢٩] أي: إني أُريدُ تركَ مقاتلتكَ، وإنْ كنتُ أشدَّ منكَ وأقوى، وإذ قد عزمتَ على ما عزمتَ عليه أن تبوءَ بإثمي وإثمكَ، أي: تتحمَّلُ إثمَ قتلي مع مالكَ من الآثام المتقدِّمة قبل ذلك.
قاله مجاهد، والسُّدِّي، وابن جرير، وغيرُ واحد.
وليس المرادُ أنَّ آثام المقتول تتحوَّل بمجرد قتلهِ إلى القاتل، كما قد توهَّمه بعضُ الناس، فإنَّ ابنَ جرير حكى الإجماع على خلاف ذلك.
وأما الحديث الذي يُورده بعضُ من لا يعلم، عن النبيِّ أنه قال: "ما تركَ القاتلُ على المقتول من ذنبٍ" فلا أصلَ له ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف أيضًا.
ولكن فد يتفق في بعض الأشخاص يومَ القيامة أن يُطالب المقتولُ القاتلَ، فتكونُ حسناتُ القاتل لا تفي بهذه المظلمة، فتُحوَّلُ من سيِّئات المقتول إلى القاتل، كما ثبتَ به الحديث الصحيح في سائر المظالم، والقتل من أعظمها، واللَّه أعلم.
وقد حرَّرنا هذا كله في التفسير وللَّه الحمد.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي: عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهدُ أنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قال: إنها ستكون فتنة القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي" قال: أفرأيتَ إن دخل عليّ بيتي فبسطَ يدَه إليَّ ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم.
ورواه ابن مردويه: عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا، وقال: "كن كخير ابني آدم".
وروى مسلم وأهل السنن إلا النسائي: عن أبي ذرٍّ نحو هذا.
وأما الآخر، فقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: حدَّثنا الأعمشُ، عن عبد اللَّه بن مرّة، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "لا تُقتلُ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلُ (٢) من دمها، لأنه كان أول منْ سنَّ القتلَ".
ورواه الجماعة سوى أبي داود: من حديث الأعمش به.
وهكذا روي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وإبراهيم النخعي، أنهما قالا مثل هذا سواء.
[وبجبل قاسيون شمالي دمشق مغارةٌ يقال لها: مغارة الدم، مشهورة بأنها المكان الذي قَتَلَ قابيلُ أخاه هابيلَ عندها، وذلك مما تَلَقَّوه من أهل الكتاب، فاللَّه أعلمُ بصحة ذلك.
وقد ذكر الحافظُ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير -وقال: إنه كان من الصالحين- أنه رأى النبيَّ ﷺ وأبا بكر وعمرَ وهابيلَ، وأنَّه استحلفَ هابيلَ أنَّ هذا دمه، فحلفَ له، وذكرَ أنَّه سألَ اللَّه تعالى أن يجعلَ هذا المكان يُستجابُ عنده الدعاء، فأجابَه إلى ذلك، وصدَّقه في ذلك رسولُ اللَّه ﷺ، وقال: إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس.
وهذا منامٌ لو صحَّ عن أحمد بن كثير هذا لم يترتبْ عليه حكمٌ شرعيٌّ، واللَّه أعلم].
وقوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: ٣١] ذكرَ بعضُهم أنه لما قتلَه حملَه على ظهره سنةً.
وقال آخرون: حملَه مئة سنة، ولم يزل كذلك حتى بعثَ اللَّه غرابين -قال السُّدِّي بإسناده عن الصحابة- أخوين، فتقاتلا، فقتلَ أحدهُما الآخرَ، فلما قتلَه عَمدَ إلى الأرض يحفرُ له فيها، ثم ألقاه ودفنَه وواراه، فلما رآه يصنعُ ذلك، قال: ﴿يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾ [المائدة: ٣١].
ففعلَ مثلَ ما فعلَ الغرابُ، فواراه ودفنَه.
وذكر أهلُ التواريخ والسِّير؛ أنَّ آدمَ حَزِنَ على ابنه هابيل حزنًا شديدًا، وأنَّه قال في ذلك شعرًا، وهو قوله فيما ذكره ابن جرير، عن ابن حميد: [من الوافر]
تَغيَّرتِ البلادُ ومَنْ عليها … فوجهُ الأرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ
تغيَّرَ كلُّ ذي لَوْنٍ وطَعْمٍ … وقلَّ بشاشةُ الوَجهِ المليحِ
فأُجيب آدم: [من الوافر]
أبا هابيلَ قدْ قُتلا جميعًا … وصارَ الحيُّ كالميْتِ الذَّبيحِ
وجاءَ بشرَّةٍ قدْ كان منْها … على خَوْفٍ، فجاءَ بها يصيحُ
وهذا الشعرُ فيه نظر، وقد يكونُ آدمُ قال كلامًا يتحزَّن به بلغتِه، فألَّفه بعضُهم إلى هذا، وفيه أقوال، واللَّه أعلم.
(١) "فشدخته": كسرته وشقَّتْه.
(٢) كِفْلُ: نصيب.
مختارات