فقه المحبة (٦)
وعلامة محبة الله للعبد:
أن يقربه الله من نفسه، ويحبب له طاعته، والإيمان به، ويكره له المعاصي، ويدفع الشواغل والمعاصي عنه، ويوحشه من غيره، ويحول بينه وبين ما يقطعه عنه كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)} [الحجرات: ٧، ٨].
وإذا أحب الله عبداً ابتلاه.
فإن صبر اجتباه.
فإن رضي اصطفاه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (١).
والمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يسعد بحصوله، فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان إلى طاعة الله وعبادته.
كما أنها تحرك محب المتاع والمال، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان، ومحب الأوطان، إلى ما يحب، فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء.
وكل هذه المحاب باطلة سوى محبة الله وما والاها من محبة دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين.
والله عزَّ وجلَّ خلق عباده له ولعبادته، ولهذا اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، وهذا عقد لم يعقده الله مع خلق غيرهم؛ ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له.
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له، مصطفاة عنده، رضية لديه.
وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها، وقدر ثمنها، وكمال صفاتها، فإذا عُرف قدر السلعة، وعُرف مشتريها، وعُرف الثمن المبذول فيها عُلم شأنها ومرتبتها في الوجود.
فالسلعة أنت.
والله المشتري.
والثمن الجنة والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)} [التوبة: ١١١].
والله سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها، وأعظمها قيمة، وإذا كان الله قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه يسعون في مصالحه، في يقظته ومنامه، وحياته وموته، ثم إن العبد أبق عن سيده ومالكه معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه على عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه، ولعنته بمحبته ورحمته.
فلما أبق هذا العبد عن مالكه وسيده أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عن ما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته، فهو سبحانه عفو يحب العفو، محسن يحب الإحسان، كريم يحب الجود فإذا أبق منه العبد، وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه، فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته، وعقوبته على إحسانه.
وهو سبحانه يحب من نفسه البر والإحسان، وقد استدعى هذا العبد من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟.
ومع سوء هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزي والهوان فالله يستعطفه، ويدعوه إلى العود إليه، ويفرح بتوبته ورجوعه إلى مولاه الحق الذي هو أولى به.
فإذا رجع هذا العبد إلى ما يحب سيده، وتاب إليه ورجع إليه، وأقبل عليه، ورجع عن عدوه، فقد سار إلى الحال التي تقتضي محبة سيده له، وإنعامه عليه، وإحسانه إليه.
فيفرح به مولاه أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل غاية الكمال والغنى والمجد، فرح محسن به، لطيف جواد، غني حميد، لا فرح محتاج إلى حصول متكمل به، بل الله خلق عباده المؤمنين، وخلق كل شيء من أجلهم، وكرمهم وفضلهم على سائر المخلوقات: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠)} [لقمان: ٢٠].
وهذا العبد إذا عاد إلى ربه وتاب إليه، فهو بمثابة من أسر له العدو محبوباً له، وحالوا بينه وبينه فهرب منهم ذلك المحبوب رجاء إلى محبته اختياراً وطوعاً فكم يكون فرحه به؟ «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أحَدِكُمْ مِنْ أحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا» متفق عليه (٢).
ومحبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له، فإنه لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه، فإنه سبحانه ألهمه محبته وآثره بها، فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها، فمن تقرب إلى الله شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له، وإذا تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرَّ من محبه، وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه، وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله؟.
وكلما تاب العبد إلى ربه توبة نصوحاً فرح الله بتوبته، وأعقبه فرحاً عظيماً، ولذة وسروراً، وفرح الله بتوبة عبده لم يأت نظيره في غيرها من الطاعات، مما يدل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والتائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً بدل الله سيئاته حسنات.
(١) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (٢٣٩٨)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (١٩٥٦).
وأخرجه ابن ماجه برقم (٤٠٢٣)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (٣٢٤٩).
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٣٠٩)، ومسلم برقم (٢٦٧٥)، واللفظ له.
مختارات