فقه المحبة (٦)
فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذ الإحسان من غيره محال، وإحسان الناس من إحسان الله عزَّ وجلَّ.
والمحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فكيف إذا كان محسناً إليك وإلى كافة الخلق.
وهذا يقتضي حب الله تعالى غاية المحبة، وحُبّ ما يحب، بل يقتضي أن لا يحب غيره، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الخلق كافة بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، فكيف يكون غيره محسناً، وذلك المحسن حسنة من حسنات المحسن سبحانه.
وكل من كان متصفاً بصفات الجلال والجمال كالقوة والرحمة وغيرهما، أو كان منزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة.
فصفات الأنبياء والصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وإلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم وتزكية قلوبهم.
وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله عزَّ وجلَّ وجدتها مضمحلة بالنسبة لصفات الله سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته.
أما العلم فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ونسبة علمهم إلى علمه سبحانه كذرة من جبل، أو قطرة من بحر، بل أقل، وأما صفة القدرة، فالله على كل شيء قدير، وإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرته تعالى وجدت أن ذلك قطرة من بحر، بل أقل.
فإن أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، قدرته محدودة، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا أذنه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر على ذرة من ذرات المخلوقات.
وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكِّن له من ذلك.
ولو سلط الله سبحانه بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته.
فليس للإنسان قدرة إلا بتمكين مولاه، ونواصي الخلق كلهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقهم، فهو الغني القوي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى أحد: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)} [لقمان: ٢٨].
فلا قادر على كل شيء إلا هو سبحانه، ولا قوي إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والجبروت.
فإن تُصور أن نحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التعظيم والتقديس والتنزيه إلا له سبحانه وحده لا شريك له.
فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا شريك له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له.
القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
والمحبة قسمان:
محبة خاصة.
ومحبة عامة.
فالمحبة الخاصة: هي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله وحده.
أما المحبة العامة المشتركة فهي ثلاثة أنواع:
الأول: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام.
الثاني: محبة إشفاق كمحبة الوالد لولده، أو محبة إجلال كمحبة الولد لوالده.
الثالث: محبة أنس وإلف كمحبة الصديق صديقه، ومحبة الشريك شريكه ونحوهما.
وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ بها أحد.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ» متفق عليه (١).
وكل شيء في العالم لا يجوز أن يحب لذاته إلا الله سبحانه، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته، فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلا الله وحده.
وكل محبوب سواه إذا لم يحب لأجله فمحبته فاسدة.
والله عزَّ وجلَّ خلق في النفوس محبوبين:
حب الغذاء.
وحب النساء.
لما في ذلك من حفظ الأبدان، وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس، ففسدت أبدانهم.
ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، فخلت الأرض منهم، والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده، ويكون هو المعبود المحبوب لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.
وحب الأنبياء والمرسلين وشعائر الدين والمؤمنين تابع لمحبة الله، فإن من تمام محبته حب كل ما يحب سبحانه.
ومحبة الله تعالى يدعيها كل أحد، وذلك غير صحيح حتى تمتحن النفس بالعلامات، وتطالب بالبراهين العملية الدالة على صدق محبة الله، ومنها تقديم ما يحبه الله من الأقوال والأعمال على ما تحبه النفس من الشهوات والملاذ والأموال والأوطان وغيرها.
ومنها أن من أحب الله فإنه يتبع رسوله فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، ويتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه.
ومنها أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله بالنفس والمال واليد واللسان، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم إزدراء الناس لهم، ولومهم إياهم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)} [المائدة: ٥٤].
ومنها حب لقاء الله تعالى في الجنة، فمن أحب محبوباً أحب لقاءه، وهذا لا ينافي كراهة الموت.
ومنها أن يكون مؤثراً لما يحبه الله على ما تحبه نفسه.
ومنها أن لا يعصي الله، ومن أحب الله فلا يعصه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بأصل المحبة.
ومنها أن يداوم على ذكر الله، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه.
ومن اجتمعت فيه علامات محبة الله فقد تمت محبته، وصفا في الآخرة شرابه، ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين كما قال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)} [المطففين: ٢٢ - ٢٦].
فقابل الخالص بالصرف.
ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)} [المطففين: ٢٧، ٢٨].
فقابل المشوب بالمشوب.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١٥)، ومسلم برقم (٤٤)، واللفظ له.
مختارات