وإن له عندنا لزلفى
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ تأمل الكلمة مرة أخرى " عِنْدَنَا ".. ما أحلاها من كلمة.. عند من؟ عند الله.. زلفى؛ قربى، مكانة.. هنيئا لداوود وسلام عليه.. ومثل ذلك قيل عن ولد داوود؛ سليمان عليه السلام: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[ص: 25].. وعن إبراهيم وإسحاق ويعقوب قال الله: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار} [ص: 47].. مرة أخرى عند من؟ عنده سبحانه.. مثل ذلك قاله رسوله صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه.. عن جليبيب قال: «غير أنك عند الله لست بكاسد» (مجمع الزوائد: 4/278) وشبه ذلك قاله عن زاهر بن حرام وزاد: ولكنك عند الله غالٍ.. وعن ساقي بن مسعود قال: «لهما أثقل في الميزان من جبل أحد» (غاية المرام الصفحة أوالرقم: 416).. بينما قال ضد ذلك عن آخرين: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرءوا» {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:105]، (صحيح مسلم).. هذه هى قيمته الحقيقية عند الله.. جناح بعوضة!.. بل أهون وأرخص.. كم من سادة وأكابر بعين الخلق، بينما هم عند الله أصاغر أهون من الجُعل وأصغر من الذر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كم من أناس يشار إليهم بالبنان، وتُنظم في مدحهم القصائد، وتدبج في مناقبهم المقالات والمقولات، وهم في الحقيقة لا يساوون عند الله جناح بعوضة، ولأقيمه لهم في الميزان، العبرة ليست بعظمتهم وجاههم ووجاهتهم في الدنيا، ولا بين الناس.. إنما العبرة عنده.. العبرة بحقيقة العبد وسره المنظور المدرك ببصر الله وسمعه، وميزانه العادل القسطاس {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية: 21]، حقا: ساء ما يحكمون.. ساء حكم كل من يحكم بظاهر المقام عند الناس، مغفلا حقيقة سر المقام.. هنالك.. عند الخبير العلام.. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].. صحيح قد لا تظهر تلك الكرامة في الدنيا، ولا يبشر به عبد بعينه كما سبق مع النماذج السالف ذكرها.. بل قد يظهر نقيضه كما في حال الأشعث الأغبر ذي الطمرين المدفوع بالأبواب، الذي لو أقسم على الله لأبره.. تأمل عجيب شأنه.!! يقسم على الله فيبره.. ما أرفع قدره! جهل الناس مكانته، واحتجبوا عنه بظاهر بشريته، فدفعوه بالأبواب، وأعرضوا عن إجابة طلباته، وردوا شفاعته، فانحجبت عنهم معالم ولايته.. لكنه يبقى صاحب المقام.. المقام الحق.. المقام الذي يبتغى، والمنزلة التي ترتجى، والمكانة التي يبذل من الغالي والنفيس للوصول إليها وتحصيلها المنتهي.. مقام ليس يرتقي بمعايير أهل الدنيا، من مال وجاه ومنصب وعز ومظهر.. حاشا وكلا.. بل هو مقام رأس ماله التقوى، وخزانته تحوي الخشية وكنزه خالص العبادة واستثماراته في العمل الصالح.. وريع ذلك كله هنالك.. عنده.. عند الله.. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}.
مختارات