فقه الإيمان بالله (١٤)
والإيمان له أثران:
فله صورة حركية ظاهرة على البدن.
كما أن له مشاعر قلبية باطنة.
فحين يذكر قلب المؤمن بالله وأسمائه وصفاته، وأفعاله وأوامره، ويعرف وعده ووعيده، وعظمته وخزائنه، يغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويشعر بعظمة ربه ومهابته، ويرى نعمه وآلاءه، ويرى تقصيره في طاعته.
فينبعث إلى العمل والطاعة بانشراح وسرور، ومخافة وخشوع، وحياء وانكسار.
أما الصورة الحركية الظاهرة فتتمثل فيما بينه وبين ربه بالعبادات من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد ودعوة إلى الله.
وقلب المؤمن يجد في آيات القرآن ما يزيده إيماناً، ولا يحول بين الإنسان والقرآن شيء إلا الكفر.
فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن حين يعيشه واقعاً، لا مجرد تذوق وإدراك كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَاللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)} [الأنفال: ٢].
فهذا أثر الإيمان على القلوب، فبتدبر القرآن يزيد الإيمان، لأن التدبر من أعمال القلوب، وبه يعلم الإنسان ما جهل، ويذكر ما نسي، ويحدث في القلب رغبة في الخير، وشوقاً إلى كرامة الرب، ووجلاً من العقوبات، وزجراً عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان، ويحصل به التوكل على الله وحده في جميع الأمور.
ثم يتزين البدن بالأعمال الظاهرة وأعلاها أداء حقوق الله بالعبادة وأعظمها الصلاة، وأداء حقوق العباد وأعلاها الزكاة كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)} [الأنفال: ٣].
فهذا أثر الإيمان على البدن عبودية تامة، وطاعة تامة.
فهؤلاء هم المؤمنون حقاً.
لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان.
وبين الأعمال الباطنة والظاهرة.
وبين العلم والعمل.
وبين أداء حقوق الله وحقوق عباده: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)} [الأنفال: ٤].
فهذا ثواب المؤمنين حقاً:
درجات عالية عند ربهم.
بحسب علو أعمالهم.
ومغفرة لذنوبهم.
ورزق كريم.
وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته.
مما لا عين رأت.
ولا أذن سمعت.
ولا خطر على قلب بشر.
والمسلم وإن لم يصل إلى درجة هؤلاء في الإيمان يدخل الجنة، ولكن لا ينال ما نالوا من كرامة الله التامة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦)} [المطففين: ٢٦].
إن الإيمان ليس كلمة يقولها اللسان.
ومن ورائها واقع يشهد شهادة عملية ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي.
ولكنه ما وقر في القلب.
وصدقه العمل.
فمتى يترفع المسلم عن هذا الخلط والتناقض والعبث: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣)} [الصف: ٢، ٣].
إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان، وهي في الوقت ذاته أعلى مقام يبلغه الإنسان بتوفيق الله له، وإنه لمقام كريم يرتفع إليه الإنسان في هذه الحياة وبعد الممات.
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد.
وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى.
يقعون فوراً عبيداً لهواهم وشهواتهم، فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع الإنسان من بين سائر الأنواع.
وينحدرون في سلم الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين، بعد أن كانوا بشراً مكرمين.
وكذلك يقعون في شر العبوديات الأخرى وأحطها، يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم.
ومن أضل ممن عرض عليه الهدى الموصل إلى الله وإلى دار كرامته فلم يلتفت إليه، ودعاه هداه إلى الطرق الموصلة للهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى؟.
ومن أظلم ممن جاءهم الهدى فرفضوه، وعرض لهم الهوى فاتبعوه، وسدوا على أنفسهم أبواب الهداية، وفتحوا عليهم أبواب الغواية؟.
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)} [القصص: ٥٠].
مختارات

