فقه المحبة (٤)
فهو سبحانه المحمود على كل ما فعل، وعلى كل ما أمر، إذ ليس في أفعاله عبث، ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل والفضل، والرحمة والرأفة.
وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته.
ولا يتصور بشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفيه حقه، ولو شهد العبد بقلبه صفة واحدة من صفات كماله؛ لأستدعت منه المحبة التامة عليها.
وهل ما مع المحبين من محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به.
فأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً له.
ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به، فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولفطرة الله التي فطر الله عباده عليها، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة، وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى.
وهل الأوامر والنواهي إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟
وهل خلق الله خلقه إلا لعبادته التي هي غاية محبته والذل له؟
وكل ما سوى الله باطل، وكل محبة متعلقة بغيره باطلة، والمحبة الحق ليست إلا محبته سبحانه.
وكل كمال في الوجود فهو من آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهل الكمال كله إلا لله وحده لا شريك له.
فكل من أحب شيئاً لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء.
ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها، فالله جلَّ جلاله له الكمال المطلق في كل شيء، فكيف لا يفرده العباد بكمال المحبة؟
وكل كمال في الوجود فهو من آثار كماله سبحانه، وكل علم في الوجود فهو من آثار علمه سبحانه، وكل قدرة في الوجود فهي من آثار قدرته.
فنسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله سبحانه كنسبة علوم الخلق وقدرتهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته وقوته وحياته.
ولا نسبة أصلاً بين كمالات العالم وكمال الله سبحانه وتعالى، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبة غيره من الموجودات له نسبة.
بل يجب أن يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: ١٦٥].
فهذا عقد الإيمان الذي لا يتم إلا به، ولا غنى للعبد عن ذلك، بل هي مسألة تفرض على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل الداخل فيه إلا بها، ولا فلاح له ولا نجاة إلا بها.
ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة (أن لا إله إلا الله) فإن لا الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه، وتدعوه، وتتوكل عليه في مصالحها، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده.
والمحبة درجات متفاوتة:
بعضها أكمل من بعض، فمحبة عامة الناس تنبض من مطالعة النعم والآلاء، ولهذه المحبة منشأ وثبوت ونمو.
فمنشؤها: الإحسان ورؤية فضل الله ومننه على عباده.
وثبوتها: باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ونموها وزيادتها: يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربه، فهو فقير
بالذات، وربه غني بالذات، فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإذا دامت استجابته لله بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتزيد، وإنما كانت هذه محبة العوام؛ لأن منشأها من الأفعال لا من الأسماء والصفات والجمال والجلال.
فلو قطع الإحسان من هذه القلوب لتغيرت، وذهبت محبتها أو ضعفت، فإن باعثها هو الإحسان، ومن وَدَّك لأمر ولّى عند انقضائه، وبتلك المحبة يتلذذ المحب بخدمة محبوبه.
وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان.
ولينظر هل هو متلذذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله عزَّ وجلَّ.
وبمحبة الله يسلو العبد عن المصائب، فإن المحب يتسلى بمحبوبه عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال بما فاته، فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى في محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى في شيء غيره عوضاً عنه أصلاً.
فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه، فجميع المصائب لا يمكن دفعها بمثل محبة الله ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالمحبة أصل كل خير في الدنيا والآخرة.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (١).
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦١٦٨)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٦٤٠).
مختارات