فقه المحبة (٣)
وتنقسم المحبة باعتبار الباعث عليها إلى قسمين:
أحدهما: محبة تنشأ من الإحسان ومطالعة الآلاء والنعم.
الثاني: محبة تنشأ من جمال المحبوب وكمال أسمائه وصفاته.
فأما الأول: فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نَفَسٍ ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في كل أحواله.
ولا سبيل إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النَّفَسِ التي لا تكاد تخطر ببال العبد، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، فلله عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون ألف نعمة، وكل نعمة تحتاج إلى شكر.
فإذا كان هذا أدنى نعمة عليه، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)} [النحل: ١٨].
هذا إلى جانب ما يصرف عن العبد من المضرات وأنواع المؤذيات التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً.
والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)} [الأنبياء: ٤٢].
فالله عزَّ وجلَّ منعم عليهم بحفظهم وحراستهم مع غناه التام عنهم، وفقرهم التام إليه سبحانه، فإنه غني عنهم من كل وجه، وهم فقراء محتاجون إليه من كل وجه.
خلق لهم ما في السموات وما في الأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وأكرمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا.
وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وكتب لهم بالسيئة الواحدة سيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة.
وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفر ربه غفر له.
ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة.
وشرع لهم سبحانه التوبة الهادمة للذنوب، فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم.
وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، هو الذي أمرهم بها، وخلقهم لها، وخلقها لهم، وأعطاهم إياها، وأعانهم عليها، ورتب عليها الجزاء بمنه وكرمه.
فمنه السبب، ومنه الجزاء، ومنه التوفيق، ومنه العطاء أولاً وآخراً.
وهم محل إحسانه فقط، ليس منهم شيء، إنما الفضل كله والنعمة كلها والإحسان كله من الله أولاً وآخراً.
أعطى عبده المال وقال: تقرب به إليّ أقبله منك، فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولاً وآخراً.
فكيف لا يحب الإنسان مَنْ هذا شأنه؟
وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه سبحانه؟
ويفرح سبحانه بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها.
وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم كما قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧)} [غافر: ٧]
فانظر إلى هذه العناية.
وهذا الإحسان.
وهذا التحنن والعطف.
وهذا التحبب إلى عباده.
وهذا اللطف التام بهم.
فما أجدر العبد بطاعة ربه، وعبادته وحده لا شريك، ودوام الحمد والثناء عليه، وإفراده بالمحبة والتعظيم.
ومع هذا كله.
بعد أن أرسل الله إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله.
فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله الشفاء، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وصاحب الحاجة يسأله قضاءها.
ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه، وعذبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠)} [البروج: ١٠].
وقال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)} [الزمر: ٥٣].
فهذا الباب العظيم يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه، فإن نعمه على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات.
فهذه محبة للرب تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف القلب عندها.
وكلما ازداد العبد فيها نظراً ازداد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه.
والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إذا دخلوا منه، دُعوا من الباب الآخر وهو:
القسم الثاني: وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص خلقه وأوليائه، وهو باب المحبين حقاً، الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم.
فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال، لم يتخلف عن محبة مَنْ هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً، وأبعدها من كل خير.
فإن الله عزَّ وجلَّ فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل.
وكل كمال وجمال في المخلوق فمن آثار صنعه سبحانه، وهو سبحانه الذي لا يحد كماله، ولا يمكن لأحد أن يحيط بجلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته، وعظيم إحسانه، وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (١).
(١) أخرجه مسلم برقم (٤٨٦).
مختارات