فقه المحبة (٥)
والمحبة الصادرة من الناس خمسة أنواع:
أحدها: محبة الله، وهذه لا تكفي للنجاة من عذاب الله، فإن المشركين واليهود والنصارى يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحب الله من الإيمان والأقوال والأعمال والطاعات والأخلاق والشرائع والأشخاص ونحوها.
وهذه هي التي تدخله في الإسلام، وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)} [آل عمران: ٣١].
الثالث: الحب لله، والحب في الله، وهذا من لوازم محبة ما يحب الله.
الرابع: المحبة مع الله، وهي محبة أهل الشرك، فكل من أحب شيئاً مع الله لا لله، ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين.
الخامس: المحبة الطبيعية كمحبة الماء والطعام، والزوجة والأولاد ونحو ذلك، فهذه لا تذم إلا إذا أشغلت عن ذكر الله، وألهت عن محبته وطاعته.
والمحبة في الله من كمال الإيمان، فمن كان حبه وبغضه، وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان.
أما الحب مع الله فنوعان:
أحدهما: نوع يقدح في أصل التوحيد وهو شرك كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: ١٦٥].
وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذا شرك لا يغفره الله.
الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من الشهوات كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)} [آل عمران: ١٤].
ولهذه المحبة ثلاث درجات:
فإن أحبها لله توصلاً إلى طاعته، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها.
وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله، وإن كانت هيالمقصودة وقدمها على ما يحبه الله كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه.
والمحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب.
وكمال المحبة:
أن نحب الله.
ونحب ما يحبه.
.
ونبغض ما يبغضه.
فإذا أحببنا ما لا يحبه الله صارت محبته ناقصة، وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله، وعبوديتها له، وإخلاصها له.
ومحبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وكل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة محمودة.
أو محبة مذمومة.
فجميع الأعمال الصالحة المبنية على الإيمان لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله ورسوله.
ودينه وشرعه.
وأوليائه وعباده الصالحين.
وجميع الأعمال السيئة لا تصدر إلا عن المحبة المذمومة.
ولا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد وحبه كله لله عزَّ وجلَّ، وإلا فمحبة المخلوق من الشهوات السابقة تجذبه.
وحب الخلق له سبب يجذبهم إليه به، وحب الناس له يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله وخشيته، وإلا جذبوه وأخذوه إليهم كحب امرأة العزيز ليوسف - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قوة إيمان يوسف - صلى الله عليه وسلم - ومحبته لله وخشيته له كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها.
وقد يحبونه لعلمه ودينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية لله، وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والصدر والجاه فتنة لكل مفتون، وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم إن لم يفعلها وإلا نقص الحب أو حصل نوع بغض.
فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه في أغراضهم حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وضره.
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه، ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون تحصيل أغراضهم به.
فإن لم يكن الإنسان عابداً لله، متوكلاً عليه وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة.
وكل إنسان يحب من أحسن إليه، ولاطفه وواساه، ونصره وقمع أعداءه، وأعانه على جميع أغراضه، فهذا محبوب عنده لا محالة.
وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)} [النحل: ١٨].
ولو أن شخصاً أنعم عليك بجميع ما يملك، ومكنك منه لتتصرف فيه كيف شئت، فإنك تظن بل تجزم أن هذا الإحسان منه.
وهذا غلط.
فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال.
فمن الذي أنعم بخلقه؟ وأنعم بخلق ماله؟ ومن الذي خلق فيه إرادة الإنعام؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك دون غيرك؟ ومن الذي ألقى في نفسه وقلبه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك؟ ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم ولا يستطيع مخالفته.
فالمحسن حقيقة هو الله وحده لا شريك له، فهو الذي أمره واضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن الملك، الذي أمر أن يسلم خِلعة الملك لهذا الإنسان.
فالخازن لا يرى محسناً بتسليم خِلعة الملك؛ لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الملك ونفسه لما سلم ذلك، وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله، حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقي في نفسه أن حظه في بذل ذلك فيبذله.
مختارات