95. رافع بن عمير الطائي
رافع بن عمير الطائي
"داهية الصحراء"
"رافع بن عمير أهدى بدوي برمال الصحراء، وأدل الناس على طرقها" [المؤرخون]
هل أتاك نبأ (١) رافع بن عمير الطائي داهية الصحراء، وفاتكها الكبير؟! …
لقد طلع الإسلام على رافع فلم يلق إليه بالا، ولم يعره أي التفاتة …
ذلك لأنه كان مشغولا عنه بالإغارة على أحياء العرب، واستلاب كرائم (٢) إبلهم …
ولا تحسبن أن رافعا كان زعيم قبيلة من قبائل العرب، أو كانت له سرية (٣) يغزو بها، أو عصبة (٤) تشد أزره.
لم يكن رافع شيئا من ذلك ولا قريبا من ذلك؛ وإنما كان بدويا من أبناء الصحراء كون لنفسه جيشا من نفسه …
وجعل يشن غاراته على بيوت العرب؛ وحيدا فريدا …
ويرزأ (٥) الناس بأعز ما يملكونه، ثم يعود سالما غانما موفورا (٦).
* * *
وقد تقول: ألم يكن في هذه الأحياء التي يغير عليها رافع؛ أبطال أنجاد (٧) قادرون على مطاردة هذا الفاتك، واستنقاذ كرائم إبلهم منه،
والقضاء عليه؟! …
بلى إنه كان في أبناء الصحراء من لا يقلون عن رافع شجاعة وجرأة وإقداما …
ولكنه لم يكن بينهم من يماثله في معرفة أسرار هذه الصحراء، والقدرة على النفوذ إلى أغوارها …
حتى عرف بين العرب بأنه أهدى (٨) بدوي برمال الصحراء …
وأدل الناس على طرقها.
* * *
وقد كان من شأن رافع أنه إذا عزم على غزو قوم؛ أن يستحضر عددا كبيرا من بيض النعام … وأن يملأه بالماء …
وأن يدفنه في الأماكن البعيدة التي لا تطؤها قدم في بطن الصحراء.
ثم يشن غارته على من يشاء من أحياء العرب، ويسوق الإبل التي يستلبها (٩) أمامه، ويمضي بها إلى تلك المفاوز (١٠) التي لم تعط سرها لأحد غيره …
فإذا دخل فيها، وأوغل في متاهاتها (١١) … كف أصحابها عن مطاردته، وعادوا أدراجهم؛ خشية على أنفسهم من الهلاك عطشا أو ضياعا.
* * *
وفي السنة التاسعة للهجرة؛ بعث الرسول صلوات الله وسلامه عليه
عمرو بن العاص (١٢) على رأس سرية من سرايا المسلمين إلى بلاد طيئ، وأمره بأن يستنفر (١٣) من أسلم من العرب للخروج معه إلى الشام لقتال الروم …
وأن يستألف (١٤) من لم يسلموا منهم حتى لا ينضموا إلى أعدائه …
وكان في السرية أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطائفة من جلة صحابة رسول الله ﷺ.
فانطلقوا حتى إذا بلغوا جبل طيئ؛ عميت (١٥) عليهم الطرق، وخافوا على أنفسهم من الضياع والهلاك … فقال عمر بن الخطاب:
هاتوا لنا رجلا خبيرا يكون دليلا لنا في هذه المفاوز.
فقيل له: ليس لكم إلا رافع بن عمير الطائي؛ فإنه أعرف الناس بهذه الفيافي (١٦)، وأبصرهم بمسالكها … فدعوا رافعا واتخذوه دليلا لهم …
* * *
قضى رافع بن عمير مع هذه الصفوة المختارة من أصحاب الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ أياما بلياليها حتى أنجزوا ما أمروا به.
فرأى رافع من كريم شمائلهم (١٧)، ونبيل خصائلهم (١٨)، وسمو هديهم (١٩) ما زرع حبهم في قلبه زرعا …
لقد وجدهم عبادا في الليل؛ فرسانا في النهار …
زهادا في الدنيا؛ رغابا بما عند الله من حسن الثواب.
فكان له معهم شأن يرويه لك رافع بنفسه؛ فيقول:
لقد كنت خلال صحبتي للقوم أتأملهم جميعا، وأتفرس منهم أبا بكر خاصة، وأتوسمه وأوثره (٢٠) باهتمامي على سائر أصحابه، وفي كل خير …
فلما عدنا إلى المنازل التي خرجنا منها، وأوشكوا أن يفارقونا؛ أحسست أنهم سيغدون (٢١) معهم بقلبي … فأتيت أبا بكر وقلت:
يا رفيق الخير إني توسمتك (٢٢)، واخترتك من بين أصحابك؛ فاذكر لي شيئا إذا حفظته كنت منكم ومثلكم.
فقال: أتحفظ أصابعك الخمس؟.
قلت: نعم.
فقال: عد عليها:
تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله،
وتقيم الصلاة …
وتؤتي الزكاة إن كان لك مال …
وتصوم رمضان …
وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
ثم قال: هل حفظت؟.
فقلت: نعم، واسمع مني:
إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله …
وأما الصلاة؛ فلن أتركها أبدا …
وأما الزكاة؛ فإن يك لي مال أؤدها …
وأما رمضان؛ فسأصومه ما حييت …
وأما الحج؛ فإن أستطع أحج إن شاء الله.
* * *
ومنذ ذلك اليوم؛ طوى لص الصحراء رافع بن عمير تلك الصفحة السوداء من حياته، وفتح الصفحة الأخرى …
الصفحة المشرقة بنور الإيمان …
المتلألئة بضياء القرآن.
* * *
لقد كان ذلك نبأ رافع بن عمير في جاهليته …
فإليك طرفا من نبئه بعد إسلامه …
سير خليفة المسلمين أبو بكر الصديق جيشا مكونا من أربع فرق؛ لغزو الروم في بلاد الشام.
فاندفع الجيش الغازي في سبيل الله يحرر البلاد، ويهدي العباد …
ويرفع في كل أرض تطؤها قدماه صوت الأذان؛ ليعلن للناس أن عهد العبودية للقياصرة قد انقضى، وأن العبودية لله وحده … حتى بلغ مشارف (٢٣) دمشق، ثم انطلق منها إلى مدينة حمص في أواسط سورية.
* * *
لم يكن الروم يحسبون حسابا لجيش المسلمين أو يأبهون (٢٤) له؛ فلما رأوه يلحق بهم الهزيمة تلو الهزيمة، ويهدد جندهم بالفناء … حشدوا جيوشهم في "أنطاكية" (٢٥)، واستقدموا النجدات من أطراف الدولة "البيزنطية" (٢٦)؛ حتى اجتمع لهم مئتان وخمسون ألف محارب …
ثم دفعوا بهذا الجيش العرمرم اللجب (٢٧) في وجه المسلمين؛ فمضى يسترد البلاد التي فقدها الروم، ويهدد جند المسلمين بالفناء …
فطير (٢٨) المسلمون رسلا من عندهم إلى المدينة؛ يصفون للخليفة الموقف، ويقولون: الغوث … الغوث …
والعجل … العجل …
* * *
كان خالد بن الوليد (٢٩) - إذ ذاك - في العراق على رأس جيشه الكبير الفاتح؛ فأرسل إليه الصديق يأمره بالتوجه توا إلى بلاد الشام لنجدة الجيش المهدد بالفناء … ويبصره بالكارثة التي توشك أن تحل بالمسلمين …
فاستجاب خالد لأمر الخليفة، ومضى بعشرة آلاف من صناديد (٣٠) المسلمين فيهم رافع بن عمير الطائي … ليكونوا مددا لجيش المسلمين في الشام.
* * *
لقد كان على خالد بن الوليد أن يصل بجيشه إلى سورية في أقصر وقت …
وأن يسلك طريقا يتجنب فيه مواجهة الروم حتى لا تحول دونه ودون الالتقاء مع المسلمين؛ فجعل يستشير أصحابه ويقول:
من لي بمثل هذه الطريق؟!.
فقام إليه رافع بن عمير الطائي وقال: أنا لك بها أيها الأمير.
فقال: وكيف؟.
فقال: نقطع الصحراء ابتداء من "قراقر"، ومرورا "بسوى" و"أراك"، وانتهاء "بتدمر" (٣١) …
فإذا نحن خلف حمص في أواسط بلاد الشام؛ حيث ترابط جيوش المسلمين …
فيفاجأ بنا الروم؛ فلا يدرون إن كنا هبطنا عليهم من السماء، أو نبعنا لهم من الأرض.
فقال خالد: وكيف لنا بالماء في هذه الصحراء المقفرة؛ ومعنا عشرون ألف نسمة بين إنسان وجواد؟!.
فقال: ما دام الله معنا؛ فأنا لك به.
* * *
استشار خالد أصحاب الرأي من مقدمي الجيش؛ فقالوا:
لا تفعل أيها الأمير؛ فالمسافة بين "قراقر" و"سوى" لا تقطع بأقل من خمس ليال …
وهي مفازة لا ماء فيها، ولا مسالك …
وإن اجتيازها على الراكب الفرد يكاد يكون محالا؛ فكيف بهذا الجيش الكبير؟! … فلا تعرض نفسك ونفوس المسلمين إلى الهلاك.
فقال خالد: يا معشر المسلمين؛ لا يختلفن هديكم (٣٢)، ولا يضعفن يقينكم … واعلموا أن المعونة من الله تأتي على قدر النية …
وأن الأجر يكون على قدر المشقة …
وأن المسلم لا ينبغي (٣٣) أن يبالي بشيء ما دام ينتظر معونة ربه …
ثم إن رافع بن عمير معنا، وليس فيكم من يجهل رافع ابن الصحراء.
ثم قال: والله! لا بد من هذا؛ فقد عزمت على إنفاذ أمر خليفة رسول الله ﷺ، واستنقاذ جيش المسلمين من براثن الروم.
فما كان منهم إلا أن استجابوا له طائعين؛ وقالوا:
أنت رجل قد جمع الله لك الخير؛ فافعل ما بدا لك.
فقال: جزاكم الله خيرا …
ثم التفت إلى رافع، وقال: افعل ما بدا لك يا رافع.
فقال رافع: ائتني أيها الأمير بعشرين ناقة عظاما سمانا مسان (٣٤).
فأتي له بهن …
فعمد إليهن رافع؛ فأعطشهن …
فلما أجهدهن العطش أوردهن الماء؛ فشربن حتى امتلأن.
ثم قطع مشافرهن (٣٥)، وربط على أفواههن حتى لا يجتررن (٣٦)، ثم حمل هذه النوق ما تطيق حمله من الماء؛ فأصبح الماء في بطونها وعلى ظهورها.
* * *
وانطلق الجيش العتيد، وجعل يغذ (٣٧) السير بخيوله وأثقاله.
فكان كلما نزل منزلا؛ قام رافع إلى النوق وذبح أربعة منها.
فأخذ ما في كروشها (٣٨) من الماء، ومزجه بلبنها وسقاه الخيل …
وسقى الجيش مما على ظهورها من الماء.
* * *
فلما أتم الجيش المرحلة الخامسة من مراحل سيره، واستنفد (٣٩) سائر ما لديه من الماء … وأصبح على رافع أن يدل الجند على مصادره.
شاء الله أن يصاب رافع بالرمد حتى ورمت عيناه؛ فغدا لا يبصر شيئا.
.
فأتى إليه خالد وقال: ويحك يا رافع … لقد ذبحنا النوق جميعها، ونفد الماء كله، وشارف الجيش على الهلاك.
.
فقال: انظروا لعلكم ترون جبلين على هيئة ثديين …
فأطلق خالد بصره في كل اتجاه، ثم قال:
ها هما … نعم ها هما … يا رافع.
فقال رافع: أبشروا …
قوموا التمسوا (٤٠) بينهما شجرة عوسج (٤١) صفتها كذا وكذا.
فالتمسوها؛ فلم يجدوها.
فقال رافع: ويحكم! انفضوا (٤٢) عنها الأرض نفضا إنها هنا …
واعلموا أنكم إن لم تجدوها هلكتم وهلكت معكم.
فهبوا يبحثون عن شجرة العوسج في كل بقعة؛ فما لبثوا أن وجدوها وقد اجتثت (٤٣) وبقي أصلها في الأرض … فكبروا وكبر رافع معهم …
ثم قال: احفروا في أصلها؛ فحفروا …
فتفجرت من تحتها عين ماء عذب نمير (٤٤) …
فازدادوا تهليلا وتكبيرا …
وأقبلوا على رافع فرحين مستبشرين مهنئين؛ فقال لهم:
الحمد لله … والله لقد مررت بهذه الأرض مع أبي منذ ثلاثين عاما …
وما أبصرتها عيناي بعد ذلك.
* * *
تابع الجيش مسيرته حتى بلغ الروابي المشرفة على غوطة دمشق؛ فدفع
خالد براية رسول الله ﷺ إلى رافع بن عمير، وأمره أن يركزها هناك فركزها، وكانت تسمى "العقاب".
ثم التقى جيش خالد مع جيوش المسلمين الأربعة التي كانت تترقب قدومه …
وخاضوا معركة اليرموك التي أذل الله فيها معاطس (٤٥) الشرك، ورفع بها راية الإسلام …
وكانت إحدى المعارك الفاصلة الكبرى في التاريخ.
* * *
وبعد … فهل تعلم أن رافع بن عمير الذي كان يلقب إلى زمن قريب بلص الصحراء؛ قد أصبح يدعى "برافع الخير"؟ …
وهل تدري أن السبب في خلع هذا اللقب عليه يرجع إلى وفرة بره (٤٦) بالفقراء، وكثرة عطفه على المحتاجين.
فقد دأب (٤٧) على أن يطعم أهل ثلاث مساجد من كسب يمينه وعرق جبينه، وهو قانع من الدنيا بثوب واحد يلبسه في البيت.
.
ويخرج به إلى الصلاة …
ولا يأخذنك العجب من ذلك.
.
فقد تتلمذ رافع بن عمير ساعة في مدرسة محمد …
وأضاء في صدره قبس من نور الإيمان (*).
_________
(١) نبأ: خبر.
(٢) كرائم إبلهم: خيار إبلهم.
(٣) السرية: القطعة من الجيش.
(٤) عصبة تشد أزره: جماعة تنصره.
(٥) يرزأ: يفجع.
(٦) موفورا: كثير المال والمتاع.
(٧) الأنجاد: جمع نجد، وهو الشجاع الذي يفعل ما يعجز عنه غيره.
(٨) أهدى: أعرف.
(٩) يستلبها: استلب يستلب: انتزع الشيء من غيره قهرا.
(١٠) المفاوز: مفردها مفازة: الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها.
(١١) متاهاتها: أمكنة يضل الإنسان ويتيه فيه لشدة الظلام أو الغموض، مفردها: متاهة.
(١٢) عمرو بن العاص: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٣) يستنفر: يستنهض القوم ويستنصرهم ويستنجد بهم.
(١٤) يستألف: يستأنس القوم ويداريهم.
(١٥) عميت: خفيت وتاهت.
(١٦) الفيافي: مفرد الفيفاء أو الفيف: المفازة لا ماء فيها.
(١٧) كريم شمائلهم: سمو أخلاقهم.
(١٨) الخصائل: الخلال والصفات.
(١٩) هديهم: سيرتهم وطريقتهم.
(٢٠) أوثره: أخصه.
(٢١) سيغدون: سيذهبون.
(٢٢) توسمه: تعرفه وتبين فيه الخير.
(٢٣) مشارف دمشق: الأماكن المطلة عليها.
(٢٤) يأبهون له: يلتفتون إليه.
(٢٥) انظرها في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٢٦) الدولة البيزنطية: هي الإمبراطورية الرومانية الشرقية؛ عرفت بالبيزنطية نسبة إلى بيزنطة وهي القسطنطينية التي هي إسطنبول الآن.
(٢٧) العرمرم اللجب: الجيش الشديد والكثير.
(٢٨) فطير المسلمون: ارسلوا على عجل.
(٢٩) خالد بن الوليد: انظره ص ١٨٧.
(٣٠) الصناديد: جمع صنديد وهو السيد الشجاع.
(٣١) تدمر: مدينة في الشمال الشرقي من سوريا بواحة في بادية الشام كانت عاصمة الملكة زنوبيا، ومحطا تجاريا في طريق القوافل؛ فتحها الإمبراطور أورليانوس ودمرها، وظلت تحت حكم الرومان إلى أن أخذها المسلمون على يد خالد بن الوليد.
(٣٢) هديكم: رشادكم وطريقتكم وسيرتكم.
(٣٣) ينبغي: يجوز.
(٣٤) مسان: مفردها مسن؛ الكبير السن.
(٣٥) مشافرهن: جمع مشفر؛ الشفة.
وأخص استعمالها للبعير.
(٣٦) الاجترار: إعادة البعير الأكل من بطنه فيمضغه ثانية ويبتلعه.
(٣٧) يغذ: يسرع.
(٣٨) كروشها: مفردها كرش، وهي لذي الخف والظلف وكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان.
(٣٩) استنفد: استوفى ما فيها.
(٤٠) التمسوا: اطلبوا وابحثوا.
(٤١) العوسج: الواحدة عوسجة: جنس شجيرات من فصيلة الباذنجانيات أغصانه شائكة وأزهاره مختلفة الألوان يصلح سياجا.
(٤٢) انفضوا عنها الأرض: انظروا فيها شبرا شبرا.
(٤٣) اجتثت: اقتلعت.
(٤٤) عذب نمير: صاف سائغ شرابه.
(٤٥) معاطس مفردها معطس: الأنف؛ يقال أرغمت المعاطس: أي قهرت الخصوم.
(٤٦) وفرة بره: كثرة إحسانه وعطفه.
(٤٧) دأب: جد واجتهد.
مختارات