94. أنس بن النضر النجاري
أنس بن النضر النجاري
"ورد في أنس بن النضر حديث شريف، ونزل في حقه قرآن كريم"
أرأيت ذلك الكوكب الذي ما كاد يلمع في سماء الإسلام إلا قليلا حتى غيبته يد الردى (١)؛ وهو أشد ما يكون تألقا (٢) وازدهارا.
فلقد نمته (٣) أسرة من أعرق الأسر العربية حسبا …
وأكرمها أما وأبا …
وأوفاها برا بالعرب في الجاهلية …
وأكثرها نصحا لله، ولرسوله ﷺ في الإسلام …
ذلكم هو الصحابي الأثير الشهيد أنس بن النضر النجاري.
* * *
وحسب (٤) أنس بن النضر مجادة، وكرامة وعزا؛ أنه ورد فيه حديث شريف؛ رواه الشيخان: البخاري ومسلم …
ونزل فيه قرآن كريم؛ يتلوه المؤمنون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويصلي به المتعبدون آناء الليل (٥) وأطراف النهار …
أفبعد هذا الفخار من فخر تتطاول إليه أعناق الطامحين …
أو تهفو إليه أفئدة المتطلعين.
وهل فوق هذا السؤدد (٦) سؤدد يسعى إليه ذوو الأحساب؟.
وللحديث الذي ورد في أنس بن النضر قصة من روائع القصص.
وللقرآن الذي نزل بحقه قصة تفوق القصة السابقة.
* * *
أما قصة الحديث:
فهي أنه كانت لأنس بن النضر أخت جليلة القدر بين نساء العرب …
مرموقة (٧) المنزلة في قومها.
وهي الربيع بنت النضر؛ المكناة بأم حارثة.
وكان لأم حارثة هذه ابن في ميعة (٨) الصبا ورونق (٩) الشباب؛ قد كمل عقلا …
وحلا معشرا …
وسما خلقا ودينا …
رآه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قبيل بدر؛ فنظر إليه في حنان ورفق وقال له: (كيف أصبحت يا حارثة؟).
فقال: أصبحت مؤمنا بالله حقا …
فقال ﷺ له: (انظر ما تقول يا حارثة؛ فإن لكل قول حقيقة) …
فقال: يا رسول الله؛ لقد عزفت (١٠) نفسي عن الدنيا …
فأسهرت ليلي بالقيام …
وأطمأت نهاري بالصيام …
وكأني أنظر إلى أهل النار يتلظون بنارها، ويتعاوون (١١) في جحيمها …
ثم قال: ادع لي بالشهادة؛ يا رسول الله.
فدعا له النبي الكريم ﷺ بها.
* * *
لم يمض على ذلك اللقاء بين الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وبين فتى الفتيان إلا قليل حتى وقعت بدر …
ونودي بالخيل (١٢) …
فكان حارثة أول فارس ركب …
وكان أول قتيل استشهد …
فجزعت (١٣) عليه أمه الشيخة الثكلى (١٤) أشد الجزع …
وجاءت رسول الله، وقالت:
إن يكن حارثة في الجنة لم أبك لفقده، ولم أحزن لثكله …
وإن يكن في النار؛ بكيت عليه ما بقيت لي عيون تذرف (١٥)، وفؤاد يتحرق.
فقال لها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام:
(إنها ليست بجنة واحدة يا أم حارثة …
ولكنها جنان …
وإن حارثة في الفردوس (١٦) الأعلى) …
فرجعت العجوز الوقور الثاكل إلى بيتها، وجعلت تكفكف (١٧) عبراتها …
وتكتم لوعاتها …
وتصبر نفسها …
وتتعزى بمواساة الناس لها …
* * *
وبينما كانت السيدة النجارية تذوق من مرارة المعاناة ما تذوق، وتعاني من توفز (١٨) المشاعر ما تعاني؛ استثارتها (١٩) جارية لجماعة من أهل يثرب.
فما كان منها إلا أن لطمتها لطمة كسرت ثنيتها (٢٠).
ثم ندمت على ما فعلت أشد الندم …
ولقد تقدم أخوها أنس بن النضر من أهل الجارية يعرض عليهم الفدية (٢١)؛ فأبوها …
فنهض إليهم وجوه القوم يرجونهم الصفح فردوهم، وأصروا على أن
يشكوها إلى النبي.
فلما شكوها إليه؛ قضى بالقصاص منها تنفيذا لحكم الله …
ومساواة بين المسلمين …
فذهل (٢٢) أخوها أنس لما سمع، وقال:
أو تكسر ثنية أم حارثة يا رسول الله؟!! …
والذي بعثك بالحق لا تكسر!.
فقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
(يا أنس إنه كتاب الله يقضي بذلك).
وقبل أن يتفوه أنس بكلمة؛ نظر الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم إلى أهل الجارية المتصلبين المتعصبين؛ فإذا هم ألين من العهن (٢٣) المنفوش، وأنعم من الحرير الطري …
وإذا بهم؛ وكأن قوة خفية تدفعهم دفعا إلى غير ما كانوا عليه.
فأقبلوا على النبي صلوات الله وسلامه عليه وهم يقولون:
نعم … لا تكسر ثنيتها يا رسول الله …
نعم؛ لا تكسر …
لقد عفونا عنها يا رسول الله …
لقد صفحنا عنها يا أكرم أنبياء الله …
فنظر الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى أنس بن النضر في رفق
وإعجاب، وقال:
(إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره (٢٤).
* * *
تلكم قصة الحديث الذي ورد في أنس بن النضر.
أما القرآن الكريم الذي نزل فيه؛ فله شأن آخر …
ذلك أنه غاب عن بدر لسبب لم يكن في وسعه دفعه.
فشق عليه ألا يشهد مع الرسول أول يوم من أيام الله في الإسلام.
وأهمه ذلك الأمر وأغمه (٢٥)؛ فجعل يلوم نفسه، ويقول:
ويحك يا أنس! …
أتغيب عن أول مشهد شهده الرسول ؟!.
هل أنت ضامن بأن يمتد بك العمر حتى تشهد مع نبي الله ﷺ يوما يعادل بدرا في الذخر (٢٦) والأجر؟!!.
والله! لئن أكرمني ربي بيوم ألقى فيه المشركين؛ ليرين ما أصنع.
ولقد هم أنس رضوان الله عليه أن يقول شيئا آخر؛ لولا أنه هاب ذلك فسكت.
* * *
لم يمض على العهد الذي قطعه أنس بن النضر على نفسه إلا قليل حتى قامت أحد …
وأحد يوم قاس من أيام المسلمين؛ محص (٢٧) الله فيه قلوب المؤمنين الصادقين.
وأبرز في ساحاته الأبطال الغر (٢٨) الميامين من طلاب الشهادة، وأبناء الفراديس (٢٩).
وقد لقي فيه الرسول صلوات الله وسلامه عليه من الضنك (٣٠) والأذى ما لقي.
فرمي بالحجارة …
وألقي في الحفرة …
وشج (٣١) وجهه …
وكلمت (٣٢) شفته …
وسال دمه …
وأرجف (٣٣) المرجفون أنه قتل …
وصدق أكثر المسلمين المجاهدين معه ما ذاع عنه وشاع …
* * *
عند ذلك؛ وجد أنس بن النضر أن الفرصة غدت سانحة للوفاء بما عاهد عليه الله جل وعز.
فاطلع على ساحة المعركة، ونظر إلى المسلمين وقد انكشفوا عن
رسول الله ﷺ، وحدق بالمشركين، وهم يقصدون (٣٤) قصده ليقتلوه، ويطفئوا نور الله بحد السيوف.
فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء [يعني المسلمين الفارين من ساحة القتال].
وأبرأ (٣٥) إليك مما صنع هؤلاء [يعني المشركين المهاجمين].
ثم ألفى (٣٦) عمر بن الخطاب قريبا وهو مضطرب قلق؛ فالتفت إليه وقال:
ما فعل رسول الله يا عمر؟.
فقال: ما أراه إلا قتل …
فقال أنس: إن كان محمد قد مات؛ فإن الله حي لا يموت …
ثم سل سيفه …
وكسر غمده (٣٧) …
وألقى بنفسه في خضم (٣٨) المعركة غير مرتاب، ولا هياب (٣٩).
وبينما هو مندفع إلى لقاء المشركين رأى سعد بن معاذ (٤٠) قريبا منه …
فالتفت إليه وقال:
الجنة يا سعد الجنة …
ورب النضر! إني أجد ريحها من دون أحد …
ثم مضى لا يلوي على شيء.
قال سعد:
فهممت أن ألحق به، وأن أسلك سبيله، وأفعل فعله …
غير أني ما استطعت أن أعزم على ما عزم، وأن أصنع ما صنع …
* * *
ثم انجلت (٤١) المعركة، وإذا بأنس بن النضر قد ثوى (٤٢) شهيدا على أرض أحد …
وفيه بضع وثمانون ضربة بالسيف …
أو طعنة بالرمح …
أو رمية بالسهم …
وقد بلغ من كيد المشركين له أنهم مثلوا (٤٣) به ميتا؛ مثلة قضت على معالمه …
فما عرفه أحد إلا أخته أم حارثة …
وإنما عرفته من بنانه …
* * *
ولقد أكرم الله أنس بن النضر النجاري؛ فأنزل فيه قرآنا؛ تلاه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار …
وسيظل يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها …
لقد أنزل الله فيه قوله جل وعز:
﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ (٤٤) … (*).
_________
(١) الردى: الموت.
(٢) تألقا: نورا ولمعانا.
(٣) نمته: ربته وكبرته ورفعته.
(٤) حسب أنس مجادة: يكفيه مجد.
(٥) آناء الليل: ساعات الليل.
(٦) السؤدد: الشرف والمجد.
(٧) مرموقة المنزلة: ذات منزلة عالية بين قومها.
(٨) ميعة الصبا: أوله وأنشطه.
(٩) الرونق: البهاء.
(١٠) عزفت نفسي عن الدنيا: زهدت فيها وملت منها.
(١١) يتعاوون: يتعالى صوتهم بالصراخ والاستغاثة.
(١٢) نودي بالخيل: أي دعا داعي الجهاد.
(١٣) جزعت: خافت واغتمت.
(١٤) الثكلى: المرأة التي فقدت عزيزا عليها كالزوج أو الولد.
(١٥) تذرف: أي تدمع.
(١٦) الفردوس الأعلى: أعلى درجات الجنة.
(١٧) تكفكف عبراتها: تمسح دموعها مرة بعد مرة.
(١٨) توفز المشاعر: اضطرابها وثورتها.
(١٩) استثارتها: استفزتها وأهاجتها.
(٢٠) الثنية: جمعها ثنايا وهي أسنان مقدم الفم.
(٢١) الفدية: استنقاذ النفس بالمال.
(٢٢) ذهل: من الذهول، وهو شغل يورث حزنا ونسيانا.
(٢٣) العهن: الصوف.
(٢٤) لأبره: لأمضى قسمه وأنفذه.
(٢٥) أغمه: أحزنه.
(٢٦) الذخر: ما ادخرته من مال وغيره.
(٢٧) محص: ميز.
(٢٨) الغر الميامين: ذوو النجدة والمروءة.
(٢٩) الفراديس: جمع فردوس، وهو أعلى الجنان.
(٣٠) الضنك: الضيق والشدة.
(٣١) شج وجهه: جرحه في وجهه.
(٣٢) كلمت شفته: جرحت.
(٣٣) أرجف المرجفون: زعم الخراصون الكذابون.
(٣٤) يقصدون قصده: يتجهون نحوه.
(٣٥) أبرأ إليك: أعلن براءتي مما يغضبك.
(٣٦) ألفى: وجد.
(٣٧) الغمد: جفن السيف يحفظ فيه.
(٣٨) خضم المعركة: وسط المعركة.
(٣٩) هياب: جبان.
(٤٠) سعد بن معاذ: انظره ص ٩٩.
(٤١) انجلت المعركة: انتهت.
(٤٢) ثوى: مات ودفن.
(٤٣) مثلوا به: شوهوا جثته.
(٤٤) سورة الأحزاب الآية ٢٣.
مختارات