89. عبد الله بن عمر بن الخطاب
عبد الله بن عمر بن الخطاب
"كان عبد الله بن عمر شابا معلق القلب بالمساجد"
عبد الله بن عمر، وما أدراك ما عبد الله بن عمر؟! …
أما أبوه؛ فهو أمير المؤمنين وثانى الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب.
وأما أمه؛ فهي السيدة الرصان الرزان (١) زينب بنت مطعون.
وأما أخته؛ فهي حفصة إحدى أمهات المؤمنين.
* * *
ولد عبد الله بن عمر في مكة المكرمة وأسلم وهو صغير، وربي في مدرسة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ونشأ في أكناف (٢) الإسلام …
فلم يدنس بجاهلية، ولم يوصم بعبادة صنم.
ثم هاجر مع أبيه إلى المدينة قبل أن يبلغ الحلم (٣).
وقد كان له يوم بدر اثنتا عشرة سنة وبضعة أشهر؛ فجاء مع نفر من أترابه (٤) الصغار يرجون من الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أن يأذن لهم بالخروج معه؛ فأذن لبعضهم، ورد بعضهم الآخر لصغر سنهم.
وكان عبد الله بن عمر فى جملة من ردهم.
.
فعاد الفتية الأخيار الأبرار يبكون؛ لأنهم حرموا مما كانت تطمح إليه نفوسهم الكبيرة من شرف الجهاد مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
وفي يوم أحد؛ أصبح لعبد الله بن عمر ثلاث عشرة سنة وبضعة أشهر؛ فجاء إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ومعه أترابه يستأذنونه في أن يخرجوا معه إلى الجهاد …
فنظر إليهم نظرة مستأنية، ثم اختبرهم واحدا واحدا؛ فقبل منهم من قبل، ورد منهم من رد (٥).
وكان في جملة المردودين عبد الله بن عمر …
فعادوا وهم يبكون؛ لأن صغر أعمارهم قد حال دونهم ودون الجهاد في سبيل الله.
* * *
وفي يوم الخندق؛ أصبح لعبد الله بن عمر خمس عشرة سنة؛ فجاء هو وطائفة من أترابه يجرون سيوفهم على الأرض، ويمدون قاماتهم إلى أعلى، ويسألون النبي أن يأذن لهم بالجهاد؛ فأذن لهم هذه المرة.
عند ذلك غمرتهم الفرحة، وفاض على وجوههم السرور، وطفح عليها البشر.
ثم شهد بعد ذلك سائر الغزوات التي غزاها المسلمون.
ودخل مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه مكة عام الفتح - وكان يومئذ في العشرين من عمره - فلما أبصره النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم طفق يثني عليه ويقول:
(إن عبد الله … وإن عبد الله.
.
).
* * *
وقد كان عبد الله بن عمر مثالا فريدا للشاب الذي نشأ في طاعة الله؛ حتى قيل: إن أملك (٦) شباب قريش لنفسه؛ عبد الله بن عمر.
ولا غرو؛ فقد كان شابا معلق القلب بالمساجد … فالمسجد دار إقامته إذا أراد الراحة، والمسجد محل عبادته إذا رام العبادة.
حدث عن نفسه قال:
كان الرجل فى حياة الرسول إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله ﷺ، وكنت آنئذ غلاما شابا عزبا (٧)، وكنت أنام في المسجد النبوي …
فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني وذهبا بي إلى النار، وإذا للنار قرنان (٨)، وإذا بى أرى فيها ناسا قد عرفتهم؛ فجعلت أقول:
أعوذ بالله من النار … أعوذ بالله من النار …
فلقيني ملك آخر فقال: لا بأس عليك؛ فإنك لن تراع (٩) …
فقصصت رؤياي على أختي أم المؤمنين حفصة؛ فقصتها على الرسول
الكريم صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال:
(نعم الرجل عبد الله؛ لو كان يصلي بالليل).
فما إن سمع ذلك؛ حتى عقد العزم على ألا ينام من الليل إلا قليلا …
فكان إذا أسلم الناس جنوبهم إلى المضاجع (١٠) يصلي ما يشاء الله أن يصلي.
ثم يصير إلى الفراش؛ فيغفو إغفاءة الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي …
ثم يغفو إغفاءة الطائر، وكان يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس مرات.
* * *
ولقد شهد كرام الصحابة لعبد الله بن عمر بالصلاح.
وصدق الفتى العمري شهادتهم فيه، وحققها بأفعاله …
فقد روي عن جابر أنه قال:
ما منا من أحد أدرك الدنيا إلا ومالت (١١) به ومال بها؛ غير عبد الله بن عمر.
* * *
ولما لحق عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بالرفيق الأعلى، وآلت الخلافة إلى ذي النورين عثمان بن عفان (١٢)، أراد أن يكل أمر القضاء إلى عبد الله بن عمر؛ فقال له:
اقض بين الناس يا عبد الله؛ فإنك من أفقه المسلمين بدين الله، وأوسعهم رواية لحديث رسول الله ﷺ.
فأبى ذلك أشد الإباء، وقال:
لا أقضي بين اثنين، ولا أؤم اثنين.
فقال: إن أباك كان يقضي بين الناس والرسول حي؛ فما يمنعك أنت؟!.
فقال: إن أبي كان يقضي؛ فإذا أشكل (١٣) عليه شيء سأل النبي ﷺ، وإذا أشكل على النبي ﷺ شيء سأل جبريل ﵇ …
وإني لا أجد أحدا أسأله.
ثم قال له:
أما سمعت النبي يقول:
(من عاذ بالله؛ فقد عاذ بمعاذ (١٤).
فقال بلى؛ لقد سمعته.
فقال: إني أعوذ بالله أن تستعملني على القضاء.
فأعفاه عثمان من ذلك، وقال له:
لا تخبر بهذا أحدا؛ فالمسلمون بحاجة لمن يقضي بينهم بالعدل.
* * *
ولم يكن عبد الله بن عمر عابدا زاهدا فحسب؛ وإنما كان مع ذلك
جنديا مجاهدا … فغزا مع جيوش المسلمين كلا من الشام والعراق، والبصرة وفارس …
وشهد مع عمرو بن العاص (١٥) فتح مصر، وأقام فيها ردحا من الزمن؛ فروى عنه الحديث ما يزيد على أربعين من أهلها.
* * *
ولما ثارت الفتنة بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان ﵄؛ جعل بعض الناس يلتمسون للخلافة رجلا غيرهما؛ فتوجه نفر من ذوي الحق والعقد (١٦) إلى عبد الله بن عمر وقالوا:
هات يدك نبايع لك؛ فإنك سيد العرب وابن سيدها، وخير الناس وابن خير الناس.
فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه.
.
والله! لا تزالون تطرون (١٧) الرجل حتى تهلكوه، وإذا بايعتموني أنتم؛ فكيف أصنع بأهل المشرق؟!.
قالوا: يبايعونك أو تقاتلهم حتى يدينوا لك بالولاء.
فقال: والله! ما أحب أن الخلافة دانت لي سبعين سنة، وأنه قتل بسببي رجل واحد من المسلمين.
* * *
ولقد ظل قلب عبد الله بن عمر طوال حياته معلقا برسول الله صلوات
الله وسلامه عليه؛ فكان يهتدي بهديه، ويقتدي بفعله، ويسلك مسالكه، ويحفظ ما يسمعه منه، ويعض عليه بالنواجذ.
وما ذكر الرسول أمامه مرة؛ إلا بكى لفراقه.
وقد كان إلى ذلك شديد الخشية من الله، وكانت عيناه تفيضان من الدمع لقراءة القرآن؛ فما تلا قوله تعالى:
﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله﴾ (١٨) …
إلا غلب عليه البكاء.
وفي ذات مرة قرأ عبيد الله بن عميرة أمامه قول الله ﷿:
﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (٤١) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى (١٩) بهم الأرض ولا يكتمون (٢٠) الله حديثا﴾ (٢١) …
فجعل يبكي أشد البكاء ويذرف سخي الدمع؛ حتى تبللت ثيابه وكاد البكاء يقطع نياط (٢٢) قلبه، وكان في المجلس رجل فأشفق عليه؛ حتى هم بأن يقوم إلى القارئ ويقول له: أقصر (٢٣)؛ فإنك قد آذيت الشيخ.
* * *
ولقد كان كثير من طلاب المعرفة يكتبون إليه راغبين في أن يزودهم بخالص نصحه وثمين إرشاده … فكان يجيبهم عن طلبهم بكلمات باقيات
على الدهر.
.
من ذلك؛ أن أحدهم بعث إليه يقول:
اكتب لي - يا أبا عبد الرحمن - بالدين كله.
فكتب إليه يقول:
إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين؛ خميص (٢٤) البطن من أموالهم؛ كاف اللسان عن أعراضهم؛ لازما لأمر جماعة المسلمين؛ فافعل.
* * *
وقد جعل عبد الله بن عمر دأبه كله في إطعام الطعام، وبر المساكين والأيتام؛ حتى رويت عنه في ذلك أخبار كثيرة، وذكرت له فيه آثار وفيرة.
من ذلك؛ أنه اشتهى ذات مرة سمكا؛ فبحثت امرأته صفية عن سمكة حتى وقعت عليها، ثم صنعتها فأحسنت صنعها، ثم قربتها إليه …
فسمع نداء مسكين على الباب؛ فقال:
ادفعوا السمكة إليه.
فقالت صفية: نشدتك الله أن تقوي نفسك بشيء منها.
فقال: ادفعوها إليه.
فقالت: نحن نرضيه بدلا منها، وقالت للسائل:
إنه قد اشتهى هذه السمكة.
فقال: وأنا - والله - أشتهيها أيضا … فاشترتها منه بدينار، وأرضته.
ثم قالت لزوجها: إنا قد أرضينا السائل، وأجزلنا (٢٥) عطيته.
فقال له: هل أرضوك ورضيت، وأخذت الثمن؟.
فقال: نعم.
فالتفت إلى أهله وقال: الآن ادفعوها إليه.
* * *
وقد عوتبت امرأته في أمر هزاله (٢٦)؛ فقيل لها:
أما ترفقين بهذا الشيخ؟!.
فقالت: وما أصنع به؟!.
والله! ما أعددت له طعاما إلا دعا إليه من يأكله؛ فأرسلت إلى المساكين الذين كانوا يجلسون في طريقه إذا خرج من المسجد، وأطعمتهم.
وقلت لهم: لا تجلسوا في طريقه …
فلما جاء إلى بيته قال: أرسلوا طعاما إلى فلان وفلان؛ فقلت: لقد أرسلنا إليهم بما تريد وأكثر مما تريد؛ فقال:
بل إنكم أردتم ألا أتعشى الليلة، ثم نهض ولم يأكل شيئا.
* * *
ولقد كان عبد الله بن عمر إلى ذلك كله يتقرب إلى الله ﷿ بكل وسيلة؛ فما استحسنت نفسه شيئا من مال أو متاع (٢٧) إلا وتصدق به.
وقد عرف أرقاؤه (٢٨) ذلك؛ فجعلوا يحتالون به عليه … فإذا تاقت نفس أحدهم إلى العتق شمر عن ساعديه للعبادة، ولزم المسجد؛ فإذا رآه على هذه الحال استحسنها منه، وأعتقه؛ فيقول له أصحابه:
يا أبا عبد الرحمن إنهم يريدون أن يخدعوك بعبادتهم هذه؛ فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له
* * *
ولقد كان في كثير من الأحيان لا يكتفي بإعتاق العبد؛ وإنما يغدق عليه من المال ما ييسر له سبل العيشة الراضية …
من ذلك ما أخبر به عبد الله بن دينار؛ قال:
خرجت مع عبد الله بن عمر إلى مكة نبتغي العمرة؛ فعرسنا (٢٩) في بعض الطريق؛ فانحدر علينا راع من الجبل؛ فأراد ابن عمر أن يختبره؛ فقال:
أمملوك (٣٠) أنت؟.
قال: نعم.
فقال: بعني شاة من الغنم، وإذا سألك سيدك عنها فقل: أكلها الذئب.
فقال: وأين الله ﷿.
فبكى عبد الله بن عمر، وقال:
نعم! … أين الله ﷿ …
ثم بعث فشراه من مالكه، وشرى له الغنم التي كان يرعاها، وأعتقه.
* * *
وأخيرا - وليس آخرا - فقد كان عبد الله بن عمر جوادا (٣١) لا تمسك يداه المال.
فقد أتي مرة ببضعة وعشرين ألفا؛ فما قام من مجلسه حتى أنفقها كلها في سبيل الله وزادها …
فجاءه بعض السائلين ولم يبق معه شيء؛ فاستدان مبلغا من واحد ممن أعطاهم، ثم دفع به إلى السائل.
* * *
وبعد … فلقد عاش عبد الله بن عمر حتى نيف على الثمانين؛ فلما أتاه اليقين؛ قال لبعض أصحابه:
ما آسى (٣٢) على شيء من الدنيا إلا على ثلاث:
ظمإ الهواجر (٣٣) …
ومكابدة (٣٤) الليل …
وأني لم أقاتل أهل الفتنة.
* * *
رضي الله عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب …
فلقد عاش برا تقيا …
ومات زاهدا عابدا (*).
_________
(١) الرصان الرزان: الرصينة العاقلة الوقور.
(٢) أكناف الإسلام: حرز الإسلام.
(٣) يبلغ الحلم: يبلغ سن التكليف.
(٤) الترب: جمعها أتراب، وتربك من ولد معك ومن كان في سنك.
(٥) انظر الامتحانات عند المسلمين في كتاب "فن الامتحانات بين الطالب والمعلم" للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٦) أملك لنفسه: أقدر على التحكم فيها.
(٧) عزبا: غير متزوج.
(٨) للنار قرنان: لسانان من اللهب.
(٩) الروع: الفزع.
(١٠) أسلم الناس جنوبهم إلى المضاجع: غرق الناس في النوم.
(١١) مالت به ومال بها: نازعته ونازعها.
(١٢) عثمان بن عفان: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٣) أشكل عليه: اختلط عليه.
(١٤) عاذ بمعاذ: لجأ إلى ملجأ ولاذ بملاذ حقا.
(١٥) عمرو بن العاص: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(١٦) ذوي الحل والعقد: هم أهل الشورى وذوو الرأي والمكانة.
(١٧) الإطراء: الثناء والمبالغة في المدح.
(١٨) سورة الحديد آية ١٦.
(١٩) تسوى بهم الأرض: أي تستوي بهم؛ بأن يكونوا ترابا مثلها.
(٢٠) يكتمون الله حديثا: ينكرون ويخفون عن الله شيئا مما عملوا.
(٢١) سورة النساء آية ٤١ - ٤٢.
(٢٢) نياط القلب: العروق التي يتعلق بها القلب.
(٢٣) أقصر: أوجز.
(٢٤) خميص البطن: ضامر البطن.
(٢٥) أجزلنا عطيته: أكرمناه وأكثرنا هبته.
(٢٦) الهزيل: الضعيف الناحل.
(٢٧) المتاع: كل ما ينتفع به من عروض الدنيا.
(٢٨) أرقاؤه: عبيده.
(٢٩) فعرسنا: نزلنا للاستراحة.
(٣٠) مملوك: عبد.
(٣١) الجواد: كثير الجود والعطاء.
(٣٢) ما آس على شيء: لا أحزن على شيء.
(٣٣) ظمإ الهواجر: الصيام لله في شدة الحر.
(٣٤) مكابدة الليل: بالقيام والعبادة لله فيه.
مختارات