90. طليحة بن خويلد الأسدي
طليحة بن خويلد الأسدي
"طليحة بن جويلد الأسدي يعد بألف فارس"
[المؤرحون]
في السنة التاسعة للهجرة قدم على المدينة المنورة وفد من بني أسد.
وكان على رأسهم طليحة بن خويلد الأسدي.
فلما بلغوا المسجد النبوي؛ مثلوا بين يدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ثم قام خطيبهم وقال:
يا رسول الله؛ إنا نشهد أن الله وحده لا شريك له، ونشهد أنك عبده ورسوله، وأنه بعثك بدين الهدى والحق …
ونحن إنما جئناك من عند أنفسنا ولم تبعث إلينا أحدا …
فتقبل إسلامنا يا رسول الله.
فرعب بهم النبي ﷺ أكرم ترحيب، وأنزلهم خير منزل.
* * *
لكن طليحة بن خويلد ما لبث أن تغيرت نفسه على الرسول الأعظم ﷺ، ودب في قلبه الحسد (١) له.
وجعل ينظر في أمره وكيف بدأ صغيرا، ثم ما زال ينمو ويكبر يوما بعد يوم حتى دانت له (٢) جزيرة العرب من أقصاها إلى أقصاها بالولاء والطاعة.
ثم أخذ شيطان طليحة يستدرجه، ويمنيه الأماني …
فيقول له: يا طليحة … أين محمد منك؟!
فما هو بأفصح منك لسانا؛ فأنت أديب لبيب شاعر …
وما هو بأقوى منك جنانا (٣)؛ فأنت أشجع العرب شجاعة، وأشدهم بأسا؛ حتى إن الناس يعدونك بألف فارس إذا جد الجد.
ثم إنه ليس بأعز منك نفرا (٤)؛ فأنت من بني أسد، وبنو أسد مساعر (٥) حرب؛ لهم في ميادينها أيام مشهودات، ومواقف معدودات.
فلما عاد الوفد إلى منازله … وقف طليحة في بني أسد يزعم لهم أنه نبي مرسل من عند الله.
فتبعوه جميعا إما إيمانا به، وإما عصبية (٦) له.
* * *
بعث الرسول صلوات الله وسلامه عليه جيشا بقيادة ضرار بن الأزور لقتال طليحة وقومه.
فأبلى الجيش المؤمن في بني "أسد" وأحلافهم أعظم البلاء.
وأوشك أمر طليحة أن يضمحل، لولا أن ضرارا التقى? به وجها لوجه …
وضربه بسيفه؛ فشاء الله أن ينبو (٧) عنه السيف، وألا يؤثر فيه.
فاغتنم طليحة ذلك، وجعل يشيع في قومه أن الله يحفظه ويدفع عنه …
وأن السيوف القواطع لا تعمل في جسده …
فاجتمع عليه من تفرق عنه، وتبعه خلق كثير.
وقد زاده قوة على قوة؛ وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وارتداد كثير من العرب عن دين الله، وخروجهم من الإسلام أفواجا أفواجا؛ كما دخلوا فيه أفواجا أفواجا.
* * *
ما كاد الصديق رضوان الله عليه يلي أمر المسلمين؛ حتى عقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائدا، ووجههم جميعا لحرب المرتدين.
وكان طليحة بن خويلد وقومه بنو أسد من حصة خالد بن الوليد (٨) …
فتوجه سيف الله إلى مواطن بني أسد في نجد، وأرسل في مقدمة جيشه مغوارين (٩) اثنين من مغاوير المسلمين هما:
عكاشة بن محصن، وثابت بن سلمة ليجوسا (١٠) خلال الديار …
ويتسقطا (١١) للمسلمين الأخبار.
فظفر بهما طليحة، وقتلهما شر قتلة.
فلما علم المسلمون بمصرعهما؛ حزنوا عليهما أشد الحزن وأمره … وآلوا على أنفسهم أن يثأروا لهما مهما كان الثمن غاليا.
* * *
التقى الجمعان على بئر "براخة" في أرض نجد …
واقتتلا قتالا عنيفا ضاريا؛ تساوى الفريقان في أوله.
وكان سيد بني فزارة عيينة بن حصن قد هب مع قومه لنجدة طليحة،
وصد جيش المسلمين عنه …
فلما أخذت كفة المسلمين ترجح على كفة المشركين؛ نظر عيينة إلى طليحة فوجده قد انحاز إلى فسطاطه (١٢) …
وتلفف بكسائه …
وزعم لأتباعه بأن الوحي سينزل عليه …
وأن الله سيمده بالملائكة.
ولما حمي الوطيس (١٣)، وثقلت وطأة المسلمين على أتباع طليحة أقبل عليه سيد بني فزارة وقال:
هل جاءك الملك يا طليحة؟.
قال: لا يا عيينة.
فرجع وقاتل؛ حتى ازدادت الوطأة عليه وعلى قومه ثقلا.
فكر على طليحة وقال: لا أبا لك! أجاءك جبريل؟.
قال: لا …
فقال عيينة: حتى متى؟!!.
والله لقد بلغ الجهد منا كل مبلغ …
ثم رجع فقاتل قتالا عنيفا.
ثم كر على طليحة؛ فقال: هل جاءك جبريل؟.
قال: نعم …
قال: فبماذا أوحى? إليك؟.
قال: لقد قال لي: "إن لك يوما ستلقاه؛ ليس لك أوله، ولكن لك أخراه … ثم إن لك بعد ذلك حديثا لا تنساه".
فقال له عيينة: تبا لك؛ أرى - والله - لك حديثا لا تنساه.
ثم التفت إلى قومه وقال: يا بني فزارة؛ إن هذا كذاب أشر (١٤).
ثم انحاز عنه بمن معه؛ فظهر (١٥) المسلمون على بني أسد …
وولى طليحة هاربا، ونزل على الغساسنة (١٦) في بلاد الشام.
* * *
لم يمض غير قليل على إقامة طليحة عند الغساسنة حتى ثاب إلى رشده.
فجعل يعض بنان الندم على ما فرط من أمره، ويقول:
ثكلتك (١٧) أمك يا طليحة …
كم هو مريع لو أن سيف ضرار بن الأزور أطاح بهامتك؟ …
لقد كنت تقتل مرتدا عن دينك مشركا بربك …
ويكون مصيرك النار …
ثكلتك أمك يا طليحة إن لم تمض هذه الساعة إلى خليفة رسول الله ﷺ مسلما مستسلما (١٨) …
وليفعل بك ما يشاء …
فإن ذلك أهون عليك من لحظة عذاب تصلاها في جهنم يوم القيامة …
عاهد الله - يا طليحة - إن هو سلمك حتى تفد على المدينة؛ أن تجعل عنقك التي نجت من سيف ضرار بن الأزور؛ فداء لدين الله ووقاء (١٩) للمسلمين.
ثم نزل إلى بئر؛ فاغتسل بمائها، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله.
* * *
بلغ طليحة بن خويلد الأسدي المدينة المنورة، ودخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معلنا إسلامه؛ فقال له الفاروق:
ويحك! ألست الذي قتل الرجلين الصالحين عكاشة وثابتا.
ثم أردف قائلا: إن نفسي - والله - لا ترتاح إليك أبدا.
فقال طليحة:
يا أمير المؤمنين؛ ما يهمك من رجلين: هما أكرما بالشهادة على يدي …
وأنا شقيت بهما …
وإني لأستغفر الله العظيم، وأتوب إليه …
فاستجاب له عمر، وقبل إسلامه.
* * *
تاب طليحة بن خويلد من زلته الكبرى توبة صادقة نصوحا (٢٠) …
وعاهد الله على أن يجاهد في سبيله ما بقي فيه عرق ينبض (٢١).
وآلى على نفسه أن يوردها موارد الردى؛ عله يموت شهيدا في سبيل الله …
فشاء الله ﷿.
* * *
ركب المسلمون البحر ذات مرة لغزو بلاد الروم، وفيهم طليحة بن خويلد، وبينما هم يمخرون العباب (٢٢) برزت لهم سفينة كبيرة من سفن العدو تحمل من الجند ما يفوقهم عدة وعددا، وجعلت تطاردهم في عرض البحر …
فقال طليحة لأصحابه: قربونا منها.
فقالوا له: إنه لا قبل (٢٣) لنا بها يا طليحة.
فقال لهم: والله إما أن تقربوا سفينتنا من سفينتهم، وإما أن أعمل في رقابكم هذا السيف.
فلم يجدوا مندوحة (٢٤) عن الإذعان له.
ولما تحاذت السفينتان؛ قال طليحة لمن معه:
ارفعوني على سواعدكم، واقذفوني على سفينة الروم، وسأريكم ما يقر
عيونكم (٢٥) إن شاء الله.
ففعلوا ما أمرهم به.
وما هي إلا لحظات؛ حتى وثب طليحة على سفينة الأعداء، وانقض على من فيها انقضاض الصاعقة …
وأجال سيفه في رقابهم يمنة ويسرة؛ فذهلوا (٢٦) …
وجعلوا يتطايرون تحت ضرباته.
وما هو إلا قليل؛ حتى قتل منهم من قتل …
وغرق منهم من غرق …
واستسلم الباقون.
* * *
وفي ليلة القادسية (٢٧)؛ أخرج سعد بن أبي وقاص (٢٨) طليحة بن خويلد الأسدي فى خمسة من رجاله.
وأخرج عمرو بن معدي كرب (٢٩) في خمسة آخرين، وأمرهم أن يتسللوا تحت جنح الظلام إلى معسكرات الفرس؛ ليأتوه بأخبارهم.
فما إن دخلت السريتان المعسكر؛ حتى انخلعت (٣٠) قلوب رجالهما من هول ما رأوا من العدد والعدة …
وما وجدوا من اليقظة والأهبة (٣١) …
فرجع عمرو بن معدي كرب وأصحابه، ولحق بهم رجال طليحة الخمسة.
أما طليحة نفسه؛ فمضى إلى غايته غير هياب ولا وجل …
وقضى ليلته يتنقل في أرجاء المعسكر.
* * *
فلما أدبر الليل؛ لم يشأ أن يعود أدراجه (٣٢) حاملا معه ما وقف عليه من أسرار …
وإنما عمد إلى أعظم خيمة من خيام المعسكر؛ فإذا أمامها جواد لم ير مثله قط؛ فانتضى (٣٣) سيفه، وقطع مقود الجواد، وامتطى ظهره، وانطلق يعدو به بين الخيام …
فلحق به فارس من فرسان القوم … ولما أدركه سدد رمحه ليطعنه به؛ فكر عليه طليحة، وطعنه طعنة أردته قتيلا …
فهب له فارس آخر؛ ففعل به مثلما فعل بصاحبه …
فنهض له فارس ثالث؛ فكر عليه طليحة.
فلما عرف الفارس أنه مقتول لا محالة؛ استسلم له.
فأمره طليحة أن يركض بين يديه …
ثم مضيا معا حتى بلغا معسكر المسلمين.
فلما رآهما المسلمون؛ جعلوا يهللون ويكبرون.
* * *
دعا سعد بن أبي وقاص ترجمانا، ثم سأل الأسير عن قومه وعسكرهم؛ فقال:
أريد أن أخبركم عن صاحبكم هذا أولا.
.
ثم اسألوني عما شئتم.
فقالوا: هات ما عندك؟.
فقال: لقد باشرت الحروب وغشيتها (٣٤) …
ورأيت الأبطال ولقيتهم منذ كنت غلاما إلى أن بلغت ما ترون …
فلم أسمع برجل دخل معسكرا فيه سبعون ألفا من المقاتلين؛ يخدم كل مقاتل منهم خمسة رجال أو أكثر …
فلم يرض أن يخرج من المعسكر حتى أغار على فسطاط القائد، وهتك أطناب (٣٥) خيمته …
واستلب فرسه …
فلحق به فارس يعدل ألفا (٣٦) من الفرسان؛ فقتله، ثم أدركه آخر لا يقل عنه شجاعة؛ فألحقه به …
ثم أدركته أنا - ولا أظنني خلفت بعدي من يعدلني - وكنت أريد أن أثأر
لهما - فهما ابنا عمي - فلما رأيت الموت أمام عيني استسلمت له.
* * *
لم تكن هذه جميع بطولات طليحة بن خويلد الأسدي …
ولم يكن هذا كل جهاده في سبيل الله …
فقد ظل يناضل تحت رايات القرآن؛ حتى خر صريعا شهيدا في معركة "نهاوند" (٣٧) (*).
_________
(١) دب الحسد في قلبه: مشى الحسد في فؤاده، وتمنى زوال هذه النعمة عن الرسول ﷺ.
(٢) دانت له: خضعت لطاعته.
(٣) جنانا: قلبا.
(٤) أعز نفرا: أشرف جماعة.
(٥) مساعر حرب: موقدو نار الحروب.
(٦) العصبية: شدة ارتباط المرء بجماعته.
(٧) أن ينبو عنه السيف: أن يرتد عنه.
(٨) خالد بن الوليد: انظره ص ١٨٧.
(٩) المغوار: الكثير الغارات، والجمع مغاوير.
(١٠) ليجوسا خلال الديار: ليدورا خلال المنازل ويستقصيا ما فيها.
(١١) يتسقطا الأخبار: يأخذا الأخبار شيئا فشيئا.
(١٢) الفسطاط: الخيمة الكبيرة.
(١٣) حمى الوطيس: اشتدت الحرب.
(١٤) أشر: بطر.
(١٥) ظهر المسلمون على القوم: غلبوهم.
(١٦) الغساسنة: أو آل جفنة، سلالة عربية يمنية الأصل، هجرت بلادها عندما هدم سد مأرب، واستوطنت بلاد حوران وشرق الأردن واعتنقت المسيحية، وعملوا في الجيش البيزنطي وحموا الحدود السورية.
(١٧) ثكلتك أمك: فقدتك أمك.
(١٨) مستسلما: منقادا.
(١٩) وقاء: صونا.
(٢٠) نصوحا: خالصة من الشوائب.
(٢١) عرق ينبض: نبض العرق أي تحرك حركة تدل على حياة الإنسان.
(٢٢) يمخرون العباب: مخرت السفينة جرت تشق الماء، والعباب: ارتفاع الموج.
(٢٣) لا قبل لنا بها: لا طاقة لنا بها، ولا قدرة لنا عليها.
(٢٤) المندوحة: السعة والفسحة.
(٢٥) ما يقر عيونكم: ما يسركم.
(٢٦) ذهلوا: غابوا عن رشدهم.
(٢٧) القادسية: موقع في العراق غربي النجف حدثت فيه معركة كبرى انتصر فيها المسلمون على الفرس.
(٢٨) سعد بن أبي وقاص: انظره في الكتاب الرابع من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢٩) عمرو بن معدي كرب: أحد شجعان العرب المشهورين؛ كان يقال لكل فارس من العرب فارس بني فلان إلا هو فكان يقال له فارس العرب جميعا.
(٣٠) انخلعت القلوب: كادت القلوب تنزع وتزول من مكانها.
(٣١) الأهبة: التهيؤ والاستعداد.
(٣٢) يعود أدراجه: يرجع من حيث أتى.
(٣٣) انتضى سيفه: سل سيفه.
(٣٤) غشيتها: حللت بها ومارستها.
(٣٥) الأطناب: الحبال التي تشد بها الخيمة.
(٣٦) يعدل ألفا: يساوي ألفا.
(٣٧) معركة نهاوند: معركة هزم فيها الفرس ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك وسميت بفتح الفتوح.
مختارات