88. زيد بن سعنة
زيد بن سعنة
"اعتنق ابن سعنة الإسلام بعد تأمل وتتبع لأخبار الرسول الكريم ﷺ".
جلس زيد بن سعنة مع طائفة من كبار أحبار (١) اليهود؛ يستمعون إلى حديث حبر من عظماء أحبارهم؛ يقال له ابن الهيبان.
وكان ابن الهيبان هذا؛ قد وفد عليهم من ديار الشام، وعزم على الإقامة عندهم في يثرب.
فأخذ زيد بن سعنة بروعة حديث الحبر، وصدق لهجته، وحرارة إيمانه، وسعة اطلاعه على التوراة (٢).
لكنه كان وهو يصغي إليه؛ يسائل نفسه عن الأسباب التي جعلت هذا الحبر يهجر بلاد الجنات المعروشة (٣)، والظلال الوارفة (٤)، والمياه المتدفقة …
ودفعته إلى قطع المسافات البعيدة؛ ليقضي بقية حياته في يثرب …
نائيا عن الأهل والوطن؛ بعيدا عن العشير (٥) والسكن.
* * *
فما إن انتهى ابن الهيبان من كلامه؛ حتى بادره زيد بن سعنة قائلا:
أيها الحبر الجليل؛ لقد نزلت في ديارنا سهلا، وستلقى بنا أهلا …
ولكن ما الذي حملك على أن تترك ديار الشام؛ التي تكثر كتبنا المقدسة من الحديث عن اعتدال هوائها، وعذوبة مائها، وجمال رياضها، وكثرة خيراتها؟! …
أفهناك من يصدكم عن دينكم، أو يحول (٦) دونكم ودون إقامة شعائركم (٧)؟!.
فقال الحبر:
والله! إن ديار الشام؛ لكما وصفت وأكثر مما وصفت؛ طيب ماء، واعتدال هواء، ووفرة خير …
ونحن فيها آمنون مطمئنون.
وإنما أخرجني منها ترقب ظهور نبي أطل (٨) زمانه وآن أوانه، وجعلت بلدتكم الطيبة هذه مكان هجرته، ومنطلق دعوته.
فقال زيد بن سعنة:
أتعني به ذلك النبي العربي الذي نجده في كتبنا ونبشر به أبناءنا؟!
فقال: ما عنيت إلا هو.
* * *
ثم طفق الحبر يحدث القوم عن شمائل (٩) النبي المرتقب، ويذكر ما يتحلى به من علامات النبوة …
ويحض اليهود على اتباعه، ويمنيهم بالخير إذا هم آمنوا به ونصروه …
وينذرهم بالشر إذا هم أعرضوا عنه وخذلوه (١٠).
لكن ابن الهيبان ما لبث (١١) كثيرا حتى وافاه الأجل؛ فمات قبل أن يتحقق حلمه في رؤية النبي المنتظر، والتملي من دعوته، والإيمان بنبوته، والفور بنصرته.
* * *
لم يمض غير قليل على وفاة ابن الهيبان؛ حتى طفقت الأخبار تترى (١٢) على يثرب بظهور محمد بن عبد الله ﷺ، وتزايد أتباعه يوما بعد يوم، وصبرهم على الأذى في سبيله، وسبيل ما جاءهم به من الحق.
فهب زيد بن سعنة يذكر قومه من اليهود؛ بما كان يحدثهم به ابن الهيبان، ويدعوهم إلى تقصي (١٣) خبر هذا النبي الذي كانوا يتباشرون بظهوره، ويهددون به العرب؛ كلما ألحقوا بهم أذى، أو نالوهم بشر.
وطفق يحضهم على المبادرة إليه والإيمان به؛ قبل أن يسبقهم أحد إلى هذا الخير العظيم.
لكن زيدا لم يلق من قومه اليهود إلا الإعراض والصد (١٤)، ثم بدأ يشعر بنار الحقد التي جعلت تنهش أكبادهم حسدا لهذا النبي؛ الذي أخذ نجمه يعلو، وطفقت دعوته تتألق (١٥) …
* * *
ثم جعلت الأيام تمضي سراعا، والأحداث تترى تباعا …
فإذا بقوافل المؤمنين المهاجرين من مكة تنزل في يثرب على الرحب والسعة؛ فتلقى بالأهل أهلا وبالإخوان إخوانا …
وإذا بالبشائر تغمر المدينة؛ بأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ قادم إليها مع صفيه وخليله أبي بكر الصديق.
فضجت يثرب بالفرحة، وتألقت بالبهجة.
.
وخرج الناس زرافات ووحدانا (١٦) لاستقبال نبي الهدى والرحمة ﷺ وصاحبه.
فازداد اليهود غما على غم، وشحنت صدورهم حقدا على حقد.
لكن زيد بن سعنة كان له شأن آخر …
فلتترك له الكلام؛ ليروي لنا قصته مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
قال زيد بن سعنة:
لقد تأملت هذا القادم محمد بن عبد الله أشد التأمل وأعمقه، وتتبعته أدق التتبع وأقصاه …
فلم تبق لدي علامة من علامات النبوة؛ إلا رأيتها فيه وعرفتها في وجهه الكريم ﷺ؛ بعد أن تحريته وأطلت النظر إليه؛ إلا اثنتين؛ لم أقف عليهما عنده …
أولاهما: أنه يسبق حلمه جهله …
وثانيتهما: أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا سماحة وليونة.
فجعلت أبحث عن هاتين العلامتين حتى وجدتهما فيه …
ذلك أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه خرج ذات يوم من الحجرات (١٧) ومعه علي بن أبي طالب ﵁؛ فأتاه رجل من البداة، ووقف إلى جانبه راكبا راحلته، وقال:
يا رسول الله؛ إن لي جماعة في قرية بني فلان؛ قد دخلوا في الإسلام، وكنت قلت لهم: إن أسلموا أفاض الله عليهم من خيره وأتاهم الرزق رغدا (١٨)؛ فما لبث أن أصابهم قحط شديد مهلك، وجدب (١٩) من الغيث مضن …
وأنا أخشى - يا رسول الله - أن يخرجوا من الإسلام طمعا في غيره؛ كما دخلوه طمعا فيه …
فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم (٢٠) به فعلت.
فنظر النبي إلى علي بن أبي طالب نظرة يسأله بها عما لديه من المال؛ فقال علي:
لم يبق لدي مما جاءنا شيء يا رسول الله.
* * *
قال زيد بن سعنة:
فاغتنمت هذه الفرصة، ودنوت من رسول الله ﷺ
وقلت:
يا محمد … هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل (٢١) محدود؟ بكذا وكذا من المال؟.
قال: (نعم).
فأطلقت كيس نقودي، وأخرجت منه ثمانين مثقالا (٢٢) من ذهب، ودفعتها لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ فأعطاها الرجل وقال:
(أغث جماعتك بهذا المال، واعدل بينهم).
* * *
قال زيد بن سعنة:
فلما بقي على حلول الأجل يومان أو ثلاثة أيام؛ رأيت رسول الله ﷺ، ومعه أبو بكر وعمر ونفر من أصحابه؛ وقد خرجوا للصلاة على جنازة أحد المسلمين …
فلما قضوا صلاتهم؛ دنا النبي من جدار ليجلس إليه؛ فأتيته وأخذت بمجامع (٢٣) قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ.
وقلت له:
يا محمد، ألا تقضينى (٢٤) حقي؟ …
فوالله! ما عرفتم بني عبد المطلب إلا مماطلين (٢٥) في أداء الحقوق …
وإني لأعلم الناس بسوء طباعكم …
ثم نظرت إلى من حوله …
فإذا عينا عمر بن الخطاب تدوران في وجهه كالفلك (٢٦) المستدير، ثم رماني ببصره وقال:
أتقول لرسول الله ﷺ ما أسمع؛ وتصنع به ما أرى؟.
فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر (٢٧) من تفويت فرصة الإيمان عليك؛ لضربت بسيفي رأسك.
أما الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه؛ فنظر إلي في سكون وتؤدة (٢٨)، ثم التفت إلى عمر وقال:
(يا عمر؛ لقد كنت أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك …
فلقد كان عليك؛ أن تأمرني بحسن الأداء …
وأن تأمره بحسن الطلب) …
ثم قال له: (اذهب به يا عمر؛ فأعطه حقه …
وزده عشرين صاعا من تمر جزاء ما رعته (٢٩).
فسكنت نفس عمر، ثم ذهب بي، وأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعا من تمر …
فقلت: ما لي من حق في هذه الزيادة يا عمر!!.
فقال: أمرني الرسول أن أعطيها لك جزاء ما رعتك، فخذها.
فقلت: أوتعرفني يا عمر؟!.
فقال: لا.
فقلت: أنا زيد بن سعنة.
فقال: الحبر؟!.
فقلت: نعم.
فقال: فما دعاك إلى أن تفعل برسول الله ﷺ ما فعلت؟! وأن تقول له ما قلت؟!.
فقلت: يا عمر؛ لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه الرسول ﷺ حين نظرت إليه؛ إلا اثنتين لم أجدهما فيه …
أولاهما: أنه يسبق حلمه جهله …
وثانيتهما: أنه لا تزيده شدة الجهل عليه، إلا حلما …
وقد وجدتهما الآن …
فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ نبيا …
وأن شطر (٣٠) مالي صدقة على أمة محمد ﷺ.
قال عمر: بل قل على بعضهم؛ فإنك لا تسعهم (٣١) جميعا.
فقلت: على بعضهم.
* * *
ثم رجع عمر بن الخطاب وزيد بن سعنة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فقال النبي ﷺ: (ما أرجعكما؟!).
فقال زيد: لقد رجعت لأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنك عبده ورسوله …
وأنك صفوة أنبيائه، وخاتم رسله … (*).
_________
(١) الحبر: رئيس الكهنة عند اليهود، والحبر: العالم المتبحر في العلم أيضا.
(٢) التوراة: الكتاب الذي أنزل على موسى ﵇.
(٣) المعروشة: المبسوطة على الأرض.
(٤) الظلال الوارفة: الممتدة المتسعة.
(٥) العشير: المعاشر من زوج وأهل وغيرهم.
(٦) يحول دونكم: يمنعكم.
(٧) شعائركم: مناسككم وعباداتكم.
(٨) أطل زمانه: اقترب زمانه.
(٩) شمائل النبي: أخلاقه وصفاته.
(١٠) خذلوه: أي لم ينصروه.
(١١) ما لبث: ما أبطأ.
(١٢) تترى: تتوافد واحدا بعد واحد.
(١٣) تقصي الخبر: التحقق منه وتتبعه.
(١٤) الصد: الإعراض والهجران.
(١٥) تتألق: تلمع وتبرق.
(١٦) زرافات ووحدانا: جماعات وأفرادا.
والزرافة: العشرة من القوم.
(١٧) الحجرات: جمع حجرة، وهي حجرات نسائه ﷺ.
(١٨) الرغد: طيب العيش ووفرة الخصب.
(١٩) الجدب: احتباس المطر.
(٢٠) تغيثهم به: تفرج عنهم به وتعينهم.
(٢١) إلى أجل: إلى مدة.
(٢٢) المثقال: ما يوزن به الذهب ونحوه.
(٢٣) أخذت بمجامع قميصه: أي بجوانب قميصه.
(٢٤) تقضيني حقي: أي ترد لي ديني.
(٢٥) مماطلين: مسوفين.
(٢٦) الفلك: مدار النجوم.
(٢٧) أحاذر: أخاف وأحذر.
(٢٨) تؤدة: هدوء.
(٢٩) رعته: أخفته.
(٣٠) الشطر: القسم.
(٣١) لا تسعهم: لا تكفيهم وتشملهم.
مختارات