60. آل ياسر
آل ياسر
ياسر، وسمية، وعمار
"صبرا آل ياسر … فإن موعدكم الجنة"
[محمد رسول الله]
في ذات صباح رطيب الأنداء …
معطر الأجواء …
بلغت إحدى القوافل القادمة من "اليمن" مشارف (١) مكة.
فلما أطل ياسر بن عامر الكناني على الكعبة المعظمة بهره (٢) سناها …
وصفق قلبه فرحا برؤياها.
إذ لم تكن عيناه قد سعدنا بمشاهدتها من قبل.
* * *
لم يكن قدوم ياسر إلى مكة للتجارة كما كان شأن رجال القافلة …
وإنما قدم إليها هو وأخواه الحارث ومالك؛ ليبحثوا عن أخ لهم فقدوه منذ سنوات ولم يقفوا له على أثر (٣).
* * *
انطلق الفتية الثلاثة يبحثون عن أخيهم في كل مكان …
ويسألون عنه كل جماعة …
حتى إذا يئسوا من لقائه، اختلفت وجهاتهم …
أما الحارث ومالك فعادا إلى مراتع الطفولة، ومرابع الصبا في "اليمن" السعيد.
وأما ياسر فجذبته مكة إليها، وأغرته بأن يتخذ لنفسه منها مقاما ووطنا.
* * *
لم يكن يعلم ياسر بن عامر الكناني حين اتخذ قراره هذا أي مجد كتب له …
ولم يكن يدري أنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه …
وأنه سيأتي من صلبه فتى يزدان به مفرق الدنيا كلما أحبت أن تتزين للناس.
غير أن ياسرا لم تكن له في مكة عصبية (٤) تحميه …
ولا أسرة تمنعه (٥) …
فكان لا بد لغريب مثله من أن يحالف سيدا من سادات القوم؛ ليتمكن من الحياة آمنا مطمئنا في ذلك المجتمع الذي لا مكان فيه للضعفاء …
فما كان منه إلا أن حالف "أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي".
* * *
رأى أبو حذيفة في ياسر من كريم الشمائل، ونبيل الخصائل، ما حببه إليه؛ فزوجه من أمة له تدعى "سمية بنت خباط".
فكان أول ثمرات هذا الزواج غلام فرح به الأبوان أعظم الفرح …
ودعواه عمارا.
وقد تضاعفت فرحتهم به حين حرره أبو حذيفة وأعتق رقبته (٦).
* * *
عاشت الأسرة في كنف (٧) بني "مخزوم" عيشة هانئة راضية …
وجعلت الأيام تمضي والسنون تمر … فإذا بياسر وسمية يغدوان شيخين معمرين …
وإذا بعمار يصبح شابا ملء السمع والبصر.
* * *
ثم أشرقت الأرض بنور ربها.
وانبثق من بطاح (٨) مكة ضياء غمر الكون بالخير والبر …
وملأه بالعدل والإحسان …
فلقد قام النبي الأمي يصدع (٩) برسالة ربه …
وينذر قومه ويبشرهم …
ويدعوهم إلى ما فيه عز الدنيا وسعادة الآخرة.
* * *
سمع عمار بن ياسر أخبار الدعوة الجديدة من أفواه الناس ففتح لها سمعه، وقلبه، وعقله، لكنه حين وجد أن ما يصله عنها قليل ضئيل، متضارب يروي له غلة …
قال في نفسه: ويحك (١٠) يا عمار، ما الذي يجعلك تظمأ (١١) والمورد (١٢) منك قريب؟! …
هيا إلى صاحب الرسالة …
هيا إلى محمد بن عبد الله؛ فعنده وعند أصحابه النبأ اليقين (١٣) …
* * *
مضى عمار بن ياسر من ساعته إلى دار "الأرقم بن أبي الأرقم" …
وهناك سعد بلقاء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وسمع من قوله ما هز فؤاده هزا …
ووعى من هديه ما أترع (١٤) قلبه حكمة ونورا …
فبسط يده له وقال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله.
* * *
توجه عمار بن ياسر إلى أمه سمية فدعاها إلى الإسلام؛ فما أسرع أن استجابت لدعوته حتى لكأنها معه على موعد …
ثم اتجه إلى أبيه ياسر فدعاه إلى ما دعا إليه أمه.
فلم يكن أبوه أقل استجابة من أمه، فانضم إلى موكب النور بإسلام هذه الأسرة المباركة ثلاثة كواكب ما يزال ضياؤها يعمر قلوب المؤمنين إلى يومنا هذا …
وسيظل كذلك - بإذن الله - حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
* * *
طار خبر إسلام النفر الثلاثة إلى بني "مخزوم"؛ فاستشاطوا (١٥) غضبا، وتميزوا (١٦) غيظا.
.
وأقسموا ليردنهم عن إسلامهم أو ليوردنهم (١٧) موارد الهلكة …
فجعلوا يأخذون الأبوين وفتاهما إلى بطحاء مكة، ويلبسونهم دروع (١٨) الحديد، ويصهرونهم بأشعة الشمس …
ويمنعون عنهم الماء، ويتعاقبون عليهم بالضرب …
حتى إذا جفت منهم الحلوق، ويبست العروق، وتشققت الجلود، وسالت الدماء …
تركوهم في ذلك اليوم ليعيدوا معهم الكرة في غداة اليوم التالي، ولقد مر بهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ذات يوم وهم يعذبونهم ذلك العذاب …
فحز في نفسه أنه لا يملك لهم قوة ولا نصرا، ووقف عليهم وقال:
(صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة.
.
).
فهدأت النفوس المعذبة …
وقرت (١٩) العيون الشاخصة (٢٠) …
وعلت الوجوه المكدودة (٢١) ابتسامة راضية.
* * *
لم يطل الأمر بالشيخين الكبيرين …
أما سمية فمر بها أبو جهل (٢٢) وهي تعذب، فشتمها أقذع (٢٣) الشتم، وأسمعها قوارص (٢٤) الكلام، فلم تأبه (٢٥) له.
.
فجرد رمحه (٢٦)، وطعنها به في أسفل بطنها، فخرجت حربة الرمح من ظهرها …
فكانت أول من استشهد في الإسلام …
وحسبها بذلك رفعة ومجدا.
وأما ياسر فمات تحت التعذيب، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
* * *
اشتد الأذى على عمار بعد استشهاد أبويه، ولقد جاوز جلادوه في تعذيبه كل حد.
وفي ذات يوم أقبل على رسول الله ﷺ كاسفا (٢٧) حزينا خجلا …
وقد حاول أن ينظر إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن يملأ عينه منه، فلم يستطع أن يرفع بصره إليه، فقال له الرسول: (ما وراءك يا عمار؟!).
فقال عمار: شر مستطير يا رسول الله.
فقال: (وما ذاك؟!).
فقال: عذبت أمس حتى نالني من الجهد والضر ما لو نزل بجبل لصدعه (٢٨) … ثم إن أعداء الله لم يكتفوا بما عرضوني له من حر الهواجر (٢٩)؛ فأحرقوا جسدي بالنار …
وما زالوا يرغمونني على النيل منك، وذكر آلهتهم بخير حتى فعلت …
ثم أخذ ينشج نشيجا (٣٠) يقطع القلوب.
فقال له النبي صلوات الله وسلامه عليه:
(وكيف تجد قلبك يا عمار؟).
فقال: أجده مطمئنا يا رسول الله.
فقال: (لا عليك وإن عادوا إلى مثلها؛ فعد إلى مثل ما قلت).
ثم أكرم الله جل وعز عمارا، وأنزل فيه قرآنا، فقال تعالى:
﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ (٣١).
* * *
ولما أذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة إلى
المدينة، كان عمار بن ياسر في طليعة من هاجر إليها فرارا بدينه.
فما إن بلغ "قباء" حيث ينزل المهاجرون حتى دعاهم إلى بناء مسجد يقيمون فيه الصلاة، فاستجابوا لطلبه …
فكان المسجد الذي أقامه عمار بن ياسر أول مسجد بني في الإسلام، وحسبه (٣٢) بذلك سابقة وفضلا.
* * *
ولما هاجر الرسول الأعظم ﷺ إلى المدينة قرت به عين عمار، وفرح به فرح الحبيب بحبيبه، ولازمه ملازمة الحدين لخدينه (٣٣)، حتى كاد لا يفارقه في ليل أو نهار …
وكان النبي الكريم ﷺ يبادله حبا بحب؛ فكان إذا أقبل عليه قال: (جاء الطيب المطيب).
* * *
وفي يوم "بدر" قاتل عمار تحت راية الرسول ﷺ قتال الشجعان …
وكان المسلم الوحيد الذي خاض هذه المعركة وأبواه مؤمنان شهيدان.
* * *
ولما لحق الرسول ﷺ بجوار ربه، وارتد أكثر العرب عن الإسلام كان له في يوم "اليمامة" موقف مشهور مبرور.
ذلك أنه حين استحر (٣٤) القتل في صحابة الرسول صلوات الله وسلامه عليه …
وجعلت المنون (٣٥) تتخطف حفظة القرآن …
وزلزلت الأرض تحت أقدام المسلمين.
عند ذلك وقف عمار بن ياسر على صخرة مشرفة، وقد قطعت أذنه، وبقيت عالقة برأسه وقال:
يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون …
إلي … إلي يا معشر المسلمين …
ثم مضى أمامهم وأذنه تتذبذب (٣٦) على صفحة خده.
فحملوا بحملته حتى قتل مسيلمة الكذاب، وطفق الناس يعودون إلى دين الله أفواجا بعد أن خرجوا منه أفواجا.
* * *
ولما آلت (٣٧) الخلافة إلى الفاروق ولاه "الكوفة"، وجعل معه عبد الله بن مسعود (٣٨)، وكتب إلى أهلها يقول:
أما بعد …
فإني قد بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا …
وهما من نجباء (٣٩) أصحاب نبيكم محمد ﷺ، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما.
ثم إن عمر بدا له فأقصاه (٤٠) عن الإمارة، فلما لقيه قال له:
أساءك ما فعلته معك يا عمار؟.
فقال: والله لقد ساءتني الإمارة أكثر مما ساعني الإقصاء عنها.
* * *
رضي الله عن عمار بن ياسر …
فقد امتلأ إيمانا من قمة رأسه إلى أخمص (٤١) قدميه …
ورضي الله عن أبيه ياسر …
وأمه سمية …
فقد كان بيتهم بيت إيمان (*) …
_________
(١) مشارف: جمع مشرف: العالي المطل.
(٢) بهره: أعجبه وغلبه.
(٣) أثر: ما يبقى من رسم الشيء أو بقاياه.
(٤) عصبية تحميه: من قوم أو عشيرة تتجمع حوله وتحميه.
(٥) تمنعه: تكف العدو عنه وتحميه.
(٦) أعتق رقبته: حرره من العبودية.
(٧) في كنف: في رعاية وحماية.
(٨) بطاح: جمع بطحاء، مسيل واسع فيه رمل ورقائق الحصى.
(٩) يصدع برسالة ربه: يجهر بها.
(١٠) ويحك: كلمة ترحم وتوجع وقد تأتي بمعنى المدح والتعجب.
(١١) تظمأ: تعطش عطشا شديدا.
(١٢) المورد: مفرد موارد موضع الورود عكس الصدور وهو الطريق إلى الماء.
(١٣) النبأ اليقين: الخبر الأكيد الحق.
(١٤) أترع قلبه: ملأ قلبه.
(١٥) استشاطوا غضبا: التهبوا غضبا.
(١٦) تميزوا غيظا: تقطعوا وتفرقوا عن بعضهم البعض من شدته.
(١٧) ليوردنهم موارد الهلكة: ليحضرونهم إلى المهلكة.
(١٨) دروع: جمع درع وهو قميص من زرد الحديد يلبس وقاية من سلاح العدو.
(١٩) قرت: بردت العين سرورا وفرحا وجفت دموعها ورأت ما كانت متشوقة إليه.
(٢٠) الشاخصة: عين مفتوحة لم تطرف لدهشتها أو نحو ذلك.
(٢١) المكدودة: المتعبة.
(٢٢) أبو جهل: انظر مصرع أبي جهل من كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(٢٣) أقذع الشتم: رماها بأفحش القول وأسوئه.
(٢٤) قوارص الكلام: منغصات الكلام وآلمه.
(٢٥) فلم تأبه له: فلم تلتفت له.
(٢٦) فجرد رمحه: استله وسحبه.
(٢٧) كاسفا: سيء الحال حزينا مهموما متغير الوجه عابسا.
(٢٨) صدعه: شققه.
(٢٩) الهواجر: جمع الهاجرة وهي شدة الحر وتكون في نصف النهار أو بعد زوال الشمس إلى العصر لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنهم تهاجروا.
(٣٠) ينشج نشيجا: الباكي الذي يغص في البكاء بدون انتحاب.
(٣١) سورة النحل: آية ١٠٦.
(٣٢) حسبه: يكفيه.
(٣٣) الخدين لخدينه: الخدن الحبيب والصاحب، والخدين: من يصاحب الناس كثيرا.
(٣٤) استحر القتل: اشتد وعظم.
(٣٥) المنون: الموت.
(٣٦) تتذبذب: تتردد وتهتز.
(٣٧) آلت الخلافة: رجعت إليه الخلافة وصارت له.
(٣٨) عبد الله بن مسعود: انظره ص ٩٧.
(٣٩) نجباء: جمع نجيب: الفاضل النفيس من نوعه.
(٤٠) أقصاه: أبعده.
(٤١) أخمص قدميه: مفرد أخامص مما لا يصيب الأرض من باطنها، وربما يراد بها القدم كلها.
مختارات