المشهد التاسع
{ وفتناك فتونا }..
هل هذا هو عنوان الرحلة الإنسانية كلها؟!
هل هذا هو طريق الأنبياء.. حيث لا تتم المقامات إلا عبر مرارة العذابات !
ما الفتنة.. وما معنى فتونا !!
الفتنة.. هي الاختبار.. هي السلم الذي نعلو به ؛ إذا استند إلى جدار فيه أسرار المخاض !
أو هي.. السلم الذي نسقط منه ؛ لأن القلب كان يمشي حافيا !
الفتنة.. هي الامتحان الذي يقيس خواء قدميك، أو قوة المخبوء في جناحيك !
{ وفتناك فتونا }.. بالتنكير الذي يدل على الكثرة والتعظيم.. لأن الله إذا تعهد عبدا { غثه بالبلاء غثا وثجه بالبلاء ثجا } ؛ حتى يصبح ديمة مشبعة بالطهارة.. حيث أمطرت أبصر الناس !
ترى.. من يزرع الصباح إلا قطرة الندى النقية..!
ترى.. من يزرع الصباح إلا الذين نجوا من ظلام الليل البهيم..!
يا سيدي..
بعض الطيور ممتلئة بالطيران.. وسماؤها محنة تحلق فيها !
فإذا استقرت ؛ صارت نجمة هادية !
هل تراك تنبهت ؛ أن الروائع تستقر دوما في العمق، ولا يبرزها إلا زلازل الأحداث الكبرى ! إلا لحظات الحزن الهائلة.. تطل مثل لآلىء من عمق المحيط.. وتعطيك مكنوناتها ؛ فقد وهبتها أثمانها !
هل تعلم.. ما هو الفرق بين الحال والمقام؟
الحال ؛ طارىء ومؤقت !
والمقام ؛ ثابت ومستقر !
وكي تبلغ المقام ؛ لا بد من جمر الابتلاء.. حيث لا يعبر إلا من تجذرت أقدامهم على { الصراط المستقيم } !
يقول السلف: " إذا رآك الله تسعى في المكاسب ؛ صب عليك المواهب " !
فقد جعل سبحانه العبور إلى المقامات المحمودة ؛ على جسر الابتلاء !
هي سنة الله إذن.. المهام العالية ؛ تسبقها دوما تجارب ثمينة..
يصبح العمر حينها فيضا مختلفا.. تتكثف فيه التجارب والمعاني ؛ حيث تبدو السويعة كأنها دهورا من أعمار الآخرين !
لا يحتمل العمر الذي تعده الأقدار للرسالة ؛ التفاتة فارغة، ولا بطالة عاجزة !
{ وفتناك فتونا }..
الفتنة ؛ هي الاختبار الذي يكشف عنا كل الأسرار المغلقة !
هي الامتحان ؛ الذي ترتسم بعده اللوحة بحبر الحقيقة !
الاختبار لا يقتلنا.. ولكنه يبعث المدفون فينا !
تحفر فينا المحن ؛ كي لا تبقى الهاوية في داخلنا مفتوحة..!
صدقني..
نحن نختبىء في السراء ؛ فتأتي الضراء لتمحو عنا الغبش..!
بل لتمحو عنا الوهم، وتكتب أوصافنا الصريحة !
نحن في السراء.. مثل مسودة نص ؛ يحتاج إلى تعديل.. وحبر الضراء ؛ هو الذي يكتب سيرتنا و تواريخنا.. و كلمات النص الحقيقية !
تشطب الاختبارات كثيرا من جملنا.. وتجعلنا ننطق بالجمل التي ولدت في عمق البئر.. في عمق معرفتنا بذواتنا !
لماذا نرتعش أمام الامتحان؟! أليس هو الذي يجعل أعيننا ؛ ترمش بقوة لرؤية الحواف كي لا نسقط عنها..!
الامتحان.. هو الذي يقود خطواتنا للسير إلى أبعد مدى ؛ حيث تنتظرك دهشة النتائج..!
الامتحان.. هو حرائق مشتعلة ؛ يجتمع بعدها كل رمادنا.. ليكون هو ترميم عبورنا !
تتشقق أقدامنا في مضمار السباق.. نتمزق في لجة الغرق.. نئن من ثقل الأحداث.. لكننا نبصر بعدها ونرى رقاع ثيابنا !
نحن نتنفس تجاربنا !
هل تعلم..
أن هواء الابتلاءات يجبرك على الصمت.. ويعلمك كيف تصغي للضائقة ؛ حيث ثمة لغة أشبه بالشوك الذي يوقظنا كي يوقفنا !
لاشيء مثل الامتحان ؛ يجعلك صامدا دون انحناء مهما حفرت القيود في معصميك !
يصهرنا الله.. حتى لا نكون اسمًا منسيا.. حتى لا نكون قبرا منسيا !
الابتلاء.. { هو تمام نصرك وعزك }.. إذا عرفت كيف تغادر شرنقتك..!
ربما تبقى في العراء قليلا.. ويوجعك الانتظار.. لكن ؛ ثيابك لن تكتمل إلا بالابتلاء !
في الاختبارات التي نمر بها.. لا بد أن شيئا منا يبقى فيها.. وهذا هو معنى الذكرى الحية.. الذكرى التي لا تتوقف عن الهمس !
بعض الامتحانات تنتقل إليك.. تتسلل مثل المشاعر بهدوء شديد ؛ ثم تحتلك أو تستوطنك !
نبتسم لها إذ تنتهي ؛ ففيها بَعضُنَا.. آهاتنا ودموعنا.. والكثير من جهادنا !
نلتقيها هكذا نظن.. لكنها في الحقيقة ؛ تلتقطنا كأقدار جاهزة لصناعتنا.. تؤوينا مثل شي من ثيابنا التي نحنو علينا ؛ فتستر عوراتنا.. إذ كنّا قبلها بثياب ناقصة !
{ وفتناك فتونا }.. هي جوهر التربية القرآنية.. هي معنى { ولتصنع على عيني }..!
هي التربة التي ينبت فيها أسرار قمحنا المولود !
هذه الآية لك..هي توبتك وأوبتك ؛ اذ سمعت صوت النقص فيك جليا !
هي خطؤنا الذي يحيينا.. و هي السبيل لاكتمالنا !
يا سيدي..
البطولة.. أن يكون لك من ميراث النبوة أوفر النصيب !
أن تكون في رعاية الله ؛ حتى ينبتك الله { نباتا حسنا } !
مختارات