87. أبو بصير عتبة بن أسيد
أبو بصير عتبة بن أسيد
"ويل أمه من مسعر حرب؛ لو كان معه رجال"
[محمد رسول الله ﷺ]
في السنة السادسة للهجرة؛ خرج رسول الله ﷺ من المدينة بألف وخمسمائة من أصحابه؛ ميممين (١) وجوههم شطر المسجد الحرام؛ يريدون أداء العمرة.
فما إن علمت بهم قريش؛ حتى عقدت العزم على أن تصدهم عن دخول مكة؛ مهما كان الثمن غاليا.
لكنها آثرت (٢) أن يتم ذلك صلحا … إذا وجدت للصلح سبيلا.
* * *
ولما بلغ الرسول منطقة الحديبية (٣)؛ على بعد مرحلة من مكة، وحط رحاله فيها.
.
طفقت السفراء تروح وتغدو بينه وبين قريش، وطال بين الفريقين التراجع والتفاوض …
إلى أن جاء سهيل بن عمرو (٤) سفيرا للمشركين، وصالح رسول الله ﷺ على أن يقفل عائدا إلى المدينة، وأن يرجئ (٥) عمرته إلى العام القادم؛
شريطة أن يدخل مكة بغير سلاح، وأن يخرج منها هو ومن معه بعد ثلاثة أيام …
وأن يكون بين المسلمين وقريش صلح مدته عشرة أعوام؛ يسود خلالها السلام بين الفريقين …
فعظم الأمر على المسلمين، وكبر عليهم أن يصدهم المشركون عن بيت الله الحرام هذا الصد، وأن يبرموا (٦) مع قريش هذا العقد.
* * *
وزاد الأمر قسوة على قلوب الصحابة الكرام أن سهيل بن عمرو؛ اشترط على رسول الله ﷺ:
أن من جاء من قريش إلى المسلمين مؤمنا؛ من رجل أو امرأة؛ رده الرسول ﷺ إلى قريش …
وأن من جاء من المسلمين إلى قريش؛ مرتدا عن الإسلام؛ لم يردوه إلى النبي …
مما أثار حفيظة (٧) عمر بن الخطاب ﵁؛ فوثب إلى الصديق وقال: يا أبا بكر.
قال: نعم.
قال: أليس محمد برسول الله؟!.
قال: بلى.
قال: ألسنا بالمسلمين؟!.
قال: بلى.
قال: أو ليسوا بالمشركين؟!
قال: بلى.
قال: فعلام (٨) نعطي الدنية في ديننا؟!!.
فقال أبو بكر في حزم (٩):
الزم (١٠) أمر النبي ﷺ يا عمر …
وإني أشهد أنه رسول الله.
فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
.
ثم مضى عمر إلى النبي، وقال:
يا نبي الله؛ ألست برسول الله؟!.
قال: (بلى).
قال: أو لسنا بالمسلمين؟!.
قال: (بلى).
قال: أو ليسوا بالمشركين؟!.
قال: (بلى).
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!!.
فقال:
(إني عبد الله ورسوله …
ولن أخالف أمره …
ولن يضيعني الله أبدا) …
قال عمر:
فما زلت بعد ذلك أتصدق وأصوم، وأصلي وأعتق؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ؛ حتى رجوت أن يكون الله قد عفا عني.
* * *
ولما تم توقيع العقد بين النبي ﵇ وقريش؛ قفل الرسول ﷺ راجعا إلى المدينة …
لكنه ما كاد يستقر بها قليلا؛ حتى تعرضت ذمته ﷺ ومواثيقه لاختبار قاس بسبب أبي بصير عتبة بن أسيد بطل قصتنا هذه؛ فلتترك له الكلام ليروي قصته المثيرة.
* * *
قال أبو بصير:
كنت رجلا من المؤمنين المستضعفين؛ إذ لم يكن لي بمكة عشيرة تحميني، أو رجال يجيرونني …
وكانت قريش قد صبت علي سوط (١١) عذابها؛ بسبب مفارقتي لدينها ونبذي (١٢) لأوثانها.
ولما أخذ المسلمون يهاجرون إلى المدينة؛ حبستني قريش …
فلم تسمح لي بالهجرة مع المهاجرين، وتركتني أتقلب على نار مشبوبة من غيظها وحقدها.
فكانت كلما أصاب منها رسول الله ﷺ في معركة أو غزوة … انتقمت مني ومن إخواني من المستضعفين؛ الذين حبستهم عندها أشد انتقام.
ثم سنحت لي غفلة من قريش؛ فاغتنمتها …
ومضيت فارا بديني إلى رسول الله ﷺ، وأنا لا أعلم من أمر صلح الحديبية إلا القليل.
* * *
قال أبو بصير:
فمضيت أعذ (١٣) السير نحو المدينة؛ يطير بي الشوق إلى لقاء النبي ﷺ ويحدوني (١٤) الحنين إلى العيش مع المسلمين …
فما إن وطئت قدماي المدينة، واكتحلت عيناي بمرأى الرسول ﵇ … حتى بعثت قريش بكتاب إلى النبي، مع رجل من بني عامر، ومولى (١٥) من مواليها؛ تطلب من النبي ﷺ أن يردني إليها؛ عملا بشروط الصلح.
* * *
قال أبو بصير:
ولم أكن أتوقع أن يأمرني رسول الله ﷺ، بالرجوع إلى ما كنت فيه من البلاء، والعودة إلى أسر قريش … بعد أن نجوت منهم بنفسي وديني.
ولكن الرسول التفت إلي وقال:
(يا أبا بصير؛ إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت من العهد، ولا يصلح في ديننا الغدر …
وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين؛ فرجا ومخرجا … فانطلق إلى قومك) …
فقلت: يا رسول الله؛ أتردني إلى المشركين يفتنونني (١٦) في ديني؟!.
قال ﷺ: (يا أبا بصير انطلق؛ فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا).
* * *
قال أبو بصير:
فانطلقت مع الرجلين؛ حتى إذا كنا بذي الحليفة على بعد سبعة أميال من المدينة؛ جلسنا لنصيب شيئا من الراحة؛ فقلت للقرشي:
أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟.
فقال: نعم …
وجعل يقص علي من خبره كيت (١٧) وكيت، فأبديت له عجبي منه …
فلما رآنى أعجب من السيف هذا العجب؛ قال:
انظره إن شئت.
فلما صار السيف في يدي؛ قلت في نفسي:
مشرك يقودني إلى المشركين ليفتنوني عن ديني، ويذيقوني شر العذاب …
والله! لا أنقاد له ولا أمضي معه …
لقد برئت ذمة رسول الله ﷺ حين أسلمني إليه؛ فما علي إذا قتلته؟.
ثم سللت السيف من غمده وعلوت رأسه به، وقتلته …
فلما رأى المولى الذي كان معه مصرعه؛ ولى هاربا من وجهي؛ فلم أتبعه إذ لم يكن لى به أرب (١٨).
ومضى إلى المدينة حتى أتى رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد.
فلما رآه النبي صلوات الله عليه طالعا؛ قال:
(إن هذا الرجل مذعور؛ أصابه فزع).
فلما انتهى إلى الرسول ؛ قال له:
(ويحك! … ما لك؟!!).
قال:
قتل صاحبكم صاحبي.
* * *
قال أبو بصير:
فوالله ما برح الرجل من مكانه؛ حتى طلعت على رسول الله ﷺ.
متوشحا السيف الذي قتلت به القرشي، وقلت:
يا رسول الله … قد وفت ذمتك، وأدى الله عنك.
قال: (وكيف؟).
قلت: لقد وفيت بعهدك، وأسلمتني إلى القوم يدا بيد، ثم امتنعت أنا بنفسي منهم، ونجوت بديني مخافة أن يفتنوني أو يعبثوا بي.
فالتفت الرسول ﷺ إلى من معه وقال:
(ويل أمه من مسعر (١٩) حرب …
لو كان معه رجال) …
فوقعت مقالته هذه من نفسي موقعا.
* * *
ثم أتبع أبو بصير يقول:
لم يكن في وسع رسول الله ﷺ أن يستبقيني عنده، وفاء بعهده.
ولم يكن في وسعي أن أعود إلى قريش؛ بعد أن قتلت صاحبهم …
فمضيت حتى نزلت "العيص" على ساحل البحر؛ في الطريق التي كانت تسلكها قريش في تجارتها مع الشام …
وأقمت هناك.
ثم ما لبث أن سمع المسلمون المحتبسون (٢٠) في مكة قول الرسول ﷺ عنى:
(ويل أمه من مسعر حرب؛ لو كان معه رجال).
فجعلوا يخرجون إلى واحدا بعد واحد …
حتى بلغنا نحوا من سبعين رجلا.
وكان أول هؤلاء خروجا إلي: أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
فجعلنا نقطع طريق التجارة على قريش.
فلا نظفر بأحد منهم إلا قتلناه …
ولا تمر بنا عير لها إلا أخذناها.
وقد اشتد ساعدنا (٢١) وقويت شوكتنا، وغدونا في حلوق قريش؛ نقض مضاجعها، ونبث الذعر في قوافليها … حتى ضاقت بنا ذرعا (٢٢) وأعيتها الحيل في أمرنا …
فكتبت إلى رسول الله ﷺ تسأله بأرحامها (٢٣) أن يدعونا إليه، وتعلن له أنها نزلت عن شرطها المتعلق بنا.
* * *
قال أبو جندل صاحب أبي بصير:
وفيما نحن كذلك … وصلنا كتاب رسول الله ﷺ يدعونا فيه إلى القدوم عليه، وكان يومئذ أخي أبو بصير مريضا مرض الموت …
فأعطيته كتاب رسول الله ﷺ فرفعه إلى شفتيه وقبله …
ثم فاضت روحه وهو يقول:
اقرئوا عني السلام على رسول الله ﷺ.
فواريناه ترابه هناك، ولحقنا برسول الله صلوات الله عليه …
* * *
رضي الله عن مسعر الحرب أبي بصير …
فقد عاش معذبا في سبيل الله …
ومات مشردا في سبيل الله أيضا.
_________
(١) ميممين: قاصدين.
(٢) آثرت: فضلت واختارت.
(٣) الحديبية: بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء اختلفوا فيها منهم من شددها ومنهم من خففها وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة سميت ببئرها عند مسجد الشجرة التي بايع الرسول ﷺ تحتها وسميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع وهي أقرب إلى مكة منها إلى المدينة.
(٤) سهيل بن عمرو: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٥) يرجى: يؤخر.
(٦) يبرموا: يعقدوا.
(٧) حفيظته: غضبه.
(٨) فعلام: على أي شيء، ولأي سبب.
(٩) الحزم: ضبط الإنسان أمره والأخذ فيه بالثقة، والمراد: الشدة والصرامة.
(١٠) الزم: التزم ولا تخالف.
(١١) سوط عذابها: شدة عذابها.
(١٢) نبذي لأوثانها: تركي لأصنامها.
(١٣) أغذ السير: أسرع.
(١٤) يحدوني: يسوقني.
(١٥) المولى: العصبة، والحليف، والمعتق.
(١٦) الفتنة: الاختبار، والمراد: يعذبونني حتى يردونني عن الإسلام.
(١٧) كيت وكيت: كلمة تقولها العرب للكناية عن القصة.
(١٨) الأرب: الغاية والحاجة.
(١٩) مسعر حرب: بطلها وموقد نارها.
(٢٠) المحتبسون في مكة: الممنوعون من مغادرتها.
(٢١) اشتد ساعدنا وقويت شوكتنا: كناية عن زيادة قوتهم.
(٢٢) ضاقت بنا ذرعا: لم تستطع الصبر علينا وأصابها منا الضيق.
(٢٣) تسأله بأرحامها: تسأله متوسلة إليه بما بينها وبينه من صلة رحم.
مختارات