فقه الاستقامة (٧)
وقد ربى الله بالقرآن الكريم وبهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - جيلاً كريماً مستقيماً رضِيَ اللهُ عنهُ ورضوا عنه، فهم قدوة البشرية إلى يوم القيامة.
إنهم خير القرون، وخير جيل عرفته الأرض، إنه عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.
عالم عالي الصفات.
نقي القلب.
طيب المشاعر.
عف اللسان.
عف السريرة.
له أدب مع الله.
وأدب مع رسول الله.
وأدب مع نفسه.
وأدب مع غيره.
أدب في هواجس قلبه.
وفي حركات جوارحه.
له شرائعه المنظمة لأوضاعه.
وله أحكام تضبط استقراره.
وتكفل صيانته.
إنه عالم كريم له أدب مع الله، ومع رسول الله، يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، وأمام الرسول الذي يبلغ عن الرب، فلا يسبق المؤمن إلهه في أمر ولا نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم، ولا يتجاوز ما يأمر به، وما ينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة، أو رأياً مع خالقه تقوى منه وخشية، وحياءً وأدباً.
فلا يقول في أمر قبل قول الله وقول رسوله فيه.
وذلك أدب نفسي مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل.
وهو منبثق من تقوى الله، النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، وكذلك أدب المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم.
فلا يقترح منهم مقترح على الله ورسوله.
ولا يدلي منهم أحد برأي لم يطلب منه أن يدلي به.
ولا يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول رسوله.
حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألهم عما يعلمونه قطعاً في حجة الوداع، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم، خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -! وهو ما نهى الله عنه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)} [الحجرات: ١].
وعن نفيع بن الحارث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل يوم النحر فقال: «أتدرون أيَّ يَوْمٍ هَذَا».
قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، فقَالَ: «ألَيْسَ بِيَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قَال: «فأي شهر هذا؟» قلنا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال: «أَلَيْسَ بِذي الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ! قَال: «فَأَيُّ بَلدٍ هذا؟» قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، قال: حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، قَال: «أَلَيْسَ بالبلدَةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قالَ: «فَإنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ وَأعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هذا، فَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» متفق عليه (١).
ولهذا الجيل الطيب الطاهر السامق أدب مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث والخطاب، وتوقيرهم له في قلوبهم توقير ينعكس على أصواتهم ويميز شخص رسول الله
بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله جل جلاله يدعوهم إلى ذلك الأدب بهذا النداء الحبيب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)} [الحجرات: ٢].
وكانوا يوقرون النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاهم إلى الإيمان، وتلا عليهم القرآن، وجمعهم على الهدى، فكانوا معه في غاية الأدب خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون.
وقد نوه الله بتقواهم وغضهم أصواتهم عند رسول الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)} [الحجرات: ٣].
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كل عالم، لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.
فالنداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي.
والنداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير.
وهذا وذاك هما الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات، فلا بدَّ من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها.
أما النداء الثالث فهو يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء؟ وكيف يتصرفون بها؟ ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)} [الحجرات: ٦].
فلا بدَّ من التثبت من خبر الفاسق.
أما المؤمن الصالح فيؤخذ بخبره؛ لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، أما الشك في جميع المصادر، وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة.
فعلى من أراد الاستقامة:
أن يدخلوا في السلم كافة.
وأن يتركوا أمرهم لله ورسوله.
ويستسلموا لقدر الله وتدبيره.
ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه.
ويشكروا ربهم على نعمة الإيمان الذي هداهم إليه.
وحرك قلوبهم لحبه.
وكشف لهم عن جماله وفضله.
وعلق أرواحهم به.
وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
وهذا كله من رحمة الله وفيضه.
فهو الذي أراد بهم هذا الخير.
وخلص قلوبهم من ذلك الشر.
وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة.
وليطمئنوا إلى قضاء الله وتدبيره، فالله يختار لهم الخير، ورسول الله يأخذ بأيديهم إلى هذا الخير: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)} [الحجرات: ٧، ٨].
والاستقامة هي الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف، وذلك في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة، ليكون على منهج الله وفق أمر الله، وهذا ما أمر الله به رسوله ومن تاب معه بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)} [هود: ١١٢].
ثم أعقب الأمر بالاستقامة بالنهي عن القصور والتقصير، بل بالنهي عن الطغيان والمجاوزة.
وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه من يقظة القلب قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته، والله مطلع على القلوب والأعمال.
ولا يجوز لأهل الإيمان والاستقامة أن يركنوا إلى الذين ظلموا من الجبارين، والطغاة المفسدين، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبدونهم لغير الله من العبيد: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣)} [هود: ١١٣].
فركون المؤمنين إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الأكبر، وجزاء هذا الانحراف أن تمسهم النار، وليس لهم من الله والٍ ولا ناصر.
والاستقامة على الطريق في فترات الشدة وتكالب الأعداء أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين.
والله يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين إلى زاد الطريق بقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)} [هود: ١١٤].
وهذا الزاد هو الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف.
ذلك أنه يصل القلوب المؤمنة بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية.
والاستقامة في حاجة إلى الصبر، كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر.
فالاستقامة إحسان.
وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان.
والصبر على كيد المكذبين إحسان.
والله لا يضيع أجر المحسنين {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)} [هود: ١١٥].
وأهل الاستقامة هم الذين استقاموا على أن الله ربهم وحده.
واستقاموا على طاعته وأداء فرائضه.
واستقاموا على إخلاص الدين والعمل إلى الموت.
واستقاموا في أقوالهم وأفعالهم.
واستقاموا في سرهم وجهرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)} [فصلت: ٣٠ - ٣٢].
وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على التوحيد ومعرفة الله وخشيته وإجلاله ومهابته استقامت الجوارح كلها على طاعته.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٧)، ومسلم برقم (١٦٧٩)، واللفظ له.
مختارات