إن َّ المَلال…. من سيء الأخلاق
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه
«لا أملّ ثوبي ما وسعني، ولا أملّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أملّ دابتي ما حملتني، إن الملال من سيِّء الأخلاق».تاريخ دمشق
تبدو هذه العبارة للوهلة الأولى بسيطة، لكنها في جوهرها وثيقة أخلاقية كاملة، تؤسس لفلسفة تُعلي من شأن الوفاء وتحذر من داء الملال، الذي بات سمة غالبة على سلوك الإنسان المعاصر.
في عصرٍ يُقاس فيه كل شيء بالسرعة والاستهلاك، غدت القدرة على الصبر نادرة، والوفاء عملة شبه منقرضة. نغير هواتفنا قبل أن تتعطل، نبدل أماكننا بحثًا عن “الأجمل”، وننسحب من العلاقات تحت ذريعة “الملل”، وكأن النعمة لا تُحتفى بها إلا ما دامت جديدة.
الملال ليس شعورًا عابرًا، بل موقف.
موقف ينبع من قلة الصبر، وغياب التقدير. عمرو بن العاص لا يشكو من ثوبه، ولا يطلب الأفضل من زوجه، ولا يستبدل دابته ما دامت تؤدي دورها. عنده مبدأ: أن لا تُهدر ما ينفعك لمجرد أنك اعتدت عليه. هذا الوعي الناضج بالنعمة، هو ما نفتقده اليوم.
وقد علّمنا القرآن هذا المعنى حين قال الله تعالى:
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»
(إبراهيم: 7)
فما دام الشيء يؤدي وظيفته، وما دامت العلاقة قائمة على العِشرة الطيبة، فالملال منها ليس إلا كفرًا بنعمة، وافتقارًا للوعي بقيمتها.
في العلاقات، تتجلى هذه الأزمة بوضوح.
زوجة طيبة العشرة تُهمل لأن “الحياة صارت رتيبة”، صداقة قديمة تنهار لأن “الحديث بات مكرّرًا”، حتى الوظائف تُترك لأسباب لا تتعدى شعورًا لحظيًا بالضجر. صار المقياس الوحيد هو المتعة، لا القيمة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه»
(رواه النسائي)
هكذا يُربى الضمير على تقدير العِشرة، والاعتراف بالجميل، والوفاء لمن عاش معك في الحلوة والمرة.
الكاتب الروسي دوستويفسكي قال ذات مرة:
“الاعتياد يقتل كل شيء، حتى أجمل الأحاسيس.”
لكنّ عمرو بن العاص سبق هذا المعنى بقرون، حين كشف أن الملال ليس حتميًا، بل خيار أخلاقي. من لا يصبر، لا يدوم. ومن لا يقدّر ما بين يديه، يظل يطارد سرابًا لا نهاية له.
القرآن يأمرنا بالصبر والثبات:
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»
(البقرة: 153)
والصبر لا يقتصر على الشدائد، بل يشمل الثبات على النعمة، وتحمّل تكرار الأيام دون شكوى، ما دامت تجري بسلام.
في ثقافتنا الاجتماعية، الوفاء كان فضيلة.
البيت يُرمَّم لا يُهجر، والعِشرة تُصان لا تُستبدل، والصداقة تُحمى لا تُعلّق. هذه المبادئ لم تكن مجرد موروثات، بل كانت جزءًا من نسيج أخلاقي يربط الناس ببعضهم، ويمنح العلاقات عمقها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن خديجة رضي الله عنها:
«إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد»
(رواه البخاري)
— في أرقّ صورة للوفاء الزوجي، رغم مرور السنين ورحيلها عن الدنيا.
وفي ختام القول، نتذكّر ما جاء في القرآن:
«وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا»
(الإسراء: 34)
لأن الوفاء ليس ضعفًا، بل وعي.
وعيٌ بأن الأفضل ليس دائمًا ما هو جديد، بل ما ثبت نفعه، وصدق في العِشرة، وصبر معنا.
وأن الملال… من سيِّء الأخلاق
مختارات