العمل الصالح.. صاحبك الذي لا يخذلك
الحمد لله الكبير المتعال
الحمد لله الملك القدوس ذي العظمة والجلال
الحمد لله كلما هوت على التراب جباهُ الساجدين
الحمد للله ما اصطفت الأقدام قياما لرب العالمين.
الحمد لله ما جاعت لربها البطون وجفت الشفاه
أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد
معاشر المؤمنين
إن المواعظَ كثيرةٌ والوصايا جمةٌ وجماعُها الوصية بتقوى الله تعالى
ثم إن أعظمَ ما ينفعُ المؤمنَ عند ربه ويبلغُه سعادةَ الدنيا والآخرةِ بعدَ إيمانه: العملُ الصالحُ.
ولا يتحسرُ العبدُ على شيءٍ فاته من هذه الدنيا عند موته إلا على العملِ الصالح
قال عز وجل
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ
فلا يتمنى الرجوعَ لغرسٍ يغرسه أو بناءٍ يكملُه أو وظيفة يترقى فيها أو تجارة يوسعها أو دراسةٍ يتمُها أو عدوٍ يقهره.
وقال سبحانه:
وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَاۤ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ١٢
ولما أعجبَ الناسُ بمال قارونَ قال لهم أهلُ العلم كما ذكر الله عنهم
(وَقَالَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ وَیۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰاۚ وَلَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ.)
فالعمل الصالح رفيقُ المؤمنِ الوفيُ الذي لا يخذلُه ولا يسلُمه ولا يتركه.
في الصحيحين
يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقى معهُ واحِدٌ: يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ، ويَبْقى عَمَلُهُ.
يبقى أصدقهم محبةً من ابن أو أب قائما على القبر دقائقَ معدودةً يسبل دمعةً ويرفع دعوةً..ثم يرحلُ فيسمعُ الميتُ قرعَ آخرِ النعال التي تبتعد رويدا رويدا. حتى ينقطع الصوتُ ولم يبق ثم إلا العمل.
العمل الصالح سبب سعادة صاحبه في الآخرة والأولى
أما في الدنيا فيقول الله عز وجل
مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰةࣰ طَیِّبَةࣰۖ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾
فما عمل عبدٌ عملا صالحا إلا وجد من لذةِ الدنيا وطيبها وأنسها وسكينتها وراحتها بقدر عمله مع ما ادخره الله له في الآخرة.
أما عند الاحتضار فينفعه العمل الصالح
فتنزل الملائكة إليه وتبشره وتطمئنه
إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَبۡشِرُوا۟ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ
فإذا أدخل قبرَه نفعَه عملُه الصالح
قال تعالى
(مَن كَفَرَ فَعَلَیۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلِأَنفُسِهِمۡ یَمۡهَدُونَ﴾
قال الطبريُّ عن مجاهد
في تفسير (يمهدون)
أي يسوون مضاجعهم في القبور.
فكل عمل صالح يفعله العبد من صلاة أو صدقة أو ذكر أو صبر أو بر أو تلاوة أو صلة أو خلق حسن أو تبسم أو عفو أو إحسان لقريب أو جار أو نصيحة أو غير ذاك فإنه يسوي بذلك قبره ويمهد به مضجعه ويوسعه وينيره يجهزه ويهيئه. فإذا مات كان مسكنُه جاهزا واسعا عامرا مفروشا جميلا
وفي مسند أحمد في حديث البراء الطويل
قال صلى الله عليه وسلم
(قال: ويَأتيه رجُلٌ حسَنُ الوَجهِ، حسَنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبشِرْ بالَّذي يَسُرُّك، هذا يومُك الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ له: مَن أنت؟ فوَجهُكَ الوجهُ يَجيءُ بالخَيرِ، فيقولُ: أنا عمَلُك الصّالِحُ…)..
فلا يأتيه وهو منفردٌ وحدَه في وحشةِ القبرِ أبٌ ولا أمٌ ولا ابنٌ ولا أخٌ ولا صديقٌ ولا خادم.
إنما يأتيه عمله الصالح في صورة رجل يبشره ويؤنسه وهو أحوج ما يكون إلى الأنس من الوحشة.
فإذا نفخ في الصور وأصاب الخلق الفزع نفعه العمل الصالح فجاء آمنا
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩)
مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [المائدة ٦٩]
فإذا قامت الخلائق في حر الشمس
أظلت المؤمنين أعمالُهم الصالحةُ من صدقة أو عفاف أو محبة في الله أو ذكر أو نشأة صالحة
وذلك حين يكونُ الناسُ في الشمسِ والعرقِ
على قدرِ اعمالهم السيئة
قَالَ صلى الله عليه وسلم
فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا. فإذا جاء الحساب كان حساب أهل العمل الصالح يسيرا بسبب العمل الصالح الذي كدحوه في الدنيا
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحࣰا فَمُلَـٰقِیهِ ٦ فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ ٧ فَسَوۡفَ یُحَاسَبُ حِسَابࣰا یَسِیرࣰا ٨ وَیَنقَلِبُ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورࣰا ٩
قال الطبري في تفسيره
يقول تعالى ذكره: يأيُّها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به خيرًا كان عملك ذلك أو شرًا، يقول: فليكن عملك مما يُنجيك من سُخْطه، ويوجب لك رضاه، ولا يكن مما يُسخطه عليك فتهلك.
فإذا طارت الصحف أخذوا صحفهم بأيمانهم.ونظروا فإذا هي مليئة بالعمل الصالح من أعمال القلب واللسان والجوارح
فيسعدون وينادون
﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ فَیَقُولُ هَاۤؤُمُ ٱقۡرَءُوا۟ كِتَـٰبِیَهۡ ١٩ إِنِّی ظَنَنتُ أَنِّی مُلَـٰقٍ حِسَابِیَهۡ ٢٠ فَهُوَ فِی عِیشَةࣲ رَّاضِیَةࣲ ٢١
ثم يوضعُ العملُ الصالح نفسُه على كيفيةً يعلمها الله في الميزان.
(مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاةِ )
فيسعد العبدُ بما عمل هنا من الصالحات
حتى التسبيحة.
في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم
(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)
ثم ينفع العبد عمله الصالح عندما يجوز الناس الصراط
قال عليه الصلاة والسلام
(ويَمُرُّونَ على الصراطِ، والصراطُ كحَدِّ السَّيْفِ، دَحْضٌ، مَزَلَّةٌ، فيُقالُ لهم، امْضُوا على قَدْرِ نورِكم، فمنهم مَن يَمُرُّ كانْقِضاضِ الكوكبِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيحِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كالطَّرْفِ، ومنهم مَن يَمُرُّ كشَدِّ الرَّحْلِ، يَرْمُلُ رَمَلًا، فيَمُرُّونَ على قَدْرِ أعمالِهِم، حتى يَمُرَّ الذي نورُه على إبهامِ قَدَمِه، تَخِرُّ يَدٌ، وتَعْلَقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجْلٌ، وتَعْلَقُ رِجْلٌ، وتُصِيبُ جوانبَه النارُ فيَخْلُصُونَ، فإذا خَلَصُوا قالوا: الحمدُ للهِ الذي نَجَّانا منكِ بعدَ أن أَرَانَاكِ، لقد أعطانا اللهُ ما لم يُعْطَ أَحَدٌ)
ثم يدخلون الجنة فيتفاوتون فيها بحسب أعمالهم الصالحة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -
والجنَّة درجات، متفاضلة تفاضلاً عظيماً، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات: بحسب إيمانهم، وتقواهم .
( إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ قَالَ بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ.)
أقول قولي هذا وأستغفر الله
مختارات