{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فيقول الله تعالى في سورة القصص، مخبرًا عن أم موسى التي فجعت بالتقاط آل فرعون لولدها: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾! فلِمَ خَصّت أمُ موسى أختَه بتتبع مسيرهِ في اليم حتى وصل إلى قصر فرعون؟!
لِـمَ الأخت هي المؤهلة لحمل الرسالة في ذلك الجو المرعب القاتل؟!
ما السر الذي ألهمه الله في قصة موسى حتى يبرز خبر الأخت؟ أليس له أقارب غيرها.. أين جيرانهم.. أين الصالحون من بني إسرائيل؟!
قصتنا اليوم قصة الأخت التي أعلى الله شأنها في كتابه بذكرها في هذه اللحظات الرهيبة من حياة رسول من أعظم الرسل عليهم الصلاة والسلام.
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾، فمضت أخت موسى في عالم من الخوف والقتل والجبروت، تسير خلف أخيها الرضيع وفي قلبها بحار من الحب والحنان والرحمة؛ لا يمكن لقلب على الأرض بعد أمه أن يقوم بهذا الدور الشجاع إلا قلب الأخت!
مضت أخت موسى تتبع التابوت حتى ألقاه الموج في داخل القصر.
كان بإمكانها أن تعود وقد أدت مهمتها، وأعذرت من أمها وأخيها، وبذلت جهدها، لكن هيهات للحب أن تنتهي قصته! وهيهات للأخوة أن تسدل ستارها!
مضت الفتاة ووجه أخيها موسى في عينها وصوته يدوي في أذنيها، مضت تقتحم أهوال القصر ودخلت إلى لجة الموت تنظر ما ذا حل بأخيها، ماذا جرى له؟ أي يد حملته؟ وماذا فعلوا به؟
ويبدو من الآيات أنها تخطت حواجز هائلة، حتى اقتربت من دوائر القرار الحاسم وهي ضعيفة مسكينة، وتحسست أنباء حيرة القصر في البحث عن مرضعةٍ للصبي الذي امتنع عن الرضاع من كل المرضعات.
ورغم احتمالات انكشاف الأمر أمام مخابرات فرعون، تحركت الأخت الـمُحِبة من جديد وصدعت باقتراحها المحفوف بالمخاطر: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴿١٢﴾فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
قصة أخت موسى قصة حب مكررة؛ في كل بيت مؤمنٍ في بيوتنا قلوبٌ تحمل هذا الحب لنا! في بيوتنا أخواتنا الذي سطر القرآن ما يحملنه من الحب لنا!
لم يقل ربنا: (وقالت فلانة)؛ لأن القضية ليست قضية فلانة بل قال سبحانه: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾، لأن المعنى في الأخوة الكامنة هنا الأخوة التي تبعث على الرحمة والعطاء والصلة والإحسان والقرب.
الأخت هذا الاسم الجميل الذي يحرك مشاعر المحبة في قلوب المؤمنين وألطاف الأخوة في أفئدة الصالحين.
الأخت هذه الكلمة التي تذرف لها الدموع، وتتحرك لها القلوب.
الأخت هي النسخة المؤهلة لحمل رسالة الأم.
إنها شريكة الرحم والصلب والمهاد والثدي، والبدايات الأولى، والبراءات الصغيرة.
بعد كل هذا التاريخ من القربى -ومع شديد الأسف- تشاهد صورًا تنكرت لكل الماضي، وقطعت أواصر القربى، فسقطت الأخت إلى قاع الاهتمامات، وأصبحت قريبة من الدرجة الرابعة والخامسة؛ أصحبت تدخل بيت أخيها كأنها غريبة، تحضر حزينة، وتذهب باكية! انقرضت البسمة لها من وجوه إخوانها، ورحلت الرحمة عنها من قلوبهم، لم يعد من الأخوة إلا مسميات جافة، وكلمات فاترة، وتكلفات ثقيلة.
أخوات في الستين والسبعين، قد انحت ظهورهن، وشحبت وجوههن، ورقت عظامهن، وساء أزواجهن، لا يجدون ذرة من الاحترام ولا لفتة من التكريم عند إخوانهم الذين ربما ربَّت بعضهم وأطعمته في حجرتها، وسهرت ليلها معه في طفولته.
أين أخت موسى.. وجيل جديد من الشباب ينظر إلى أخواته كأنهن خادمات في بيته، يأمرهن وينهاهن، ويشتمهن، وربما بلغت به الوقاحة والظلم أن يضربهن، في بيوت جاهلة لا تقدر قيمة الأخت ولا منزلتها ولا ترفع رأسًا بحقوقها.
وهناك رجال أدو حقوق أخواتهم، شابت رؤوسهم، يسافر أحدهم مئات الأميال ليسأل عن حال أخته، ويتفقد أمرها مع زوجها، كيف حالها؟ وكيف معاملته لها؟ يشعرها بأنه سندها بعد الله، وعونها بعد أبيها، يمدها بماله، ويعينها بكلماته، ويخفف أحزانها، ويؤنسها إذا حزنت، ويفرح بها إذ قدمت، ويكرم زوجها من أجل أن يكرمها، ويتواضع له من أجل أن يتواضع لها، يعطيها حقها قبل أن تسأله، يعلم أنها ضعيفة تحتاج إلى مال أبيها وأمها فيبادر إليها.
الشابُ الشهم هو الذي يعامل أخته الكبيرة كأنها أمه، فهو يرى فيها مشهد أمه الحبيبة فيكرمها ويزروها ويتذكر وجه أمها فيها، ويحسن إلى أمه وأبيه بالإحسان إليها، وينظر إلى أخته الصغيرة أنها ابنته فيرحمها ويحسن إليها ويتلطف بها، ويسعى في خدمتها، والله الموفق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مختارات