فقه الإيمان بالله (٥)
أما حسن المعاشرات والمعاملات، وحسن الأخلاق، فلا تكمل إلا بالإيمان الكامل، والإيمان الكامل لا يأتي إلا بالمجاهدة والدعوة إلى الله.
وحتى تكون معاشراتنا وأخلاقنا طيبة ندعو الناس لهذه الصفات ونتمرن عليها، وندعو الله أن يرزقنا حقيقتها، حتى تكون أخلاقنا ومعاملاتنا واحدة كما كانت صلاتنا واحدة.
ولسهولة الحصول على ذلك لا بد أن يكون أمامنا دائماً إيمان الأنبياء والصحابة.
وأعمال الأنبياء والصحابة.
وأخلاق الأنبياء والصحابة.
وبذلك نترقى في الإيمان والأعمال والأخلاق، ونحذر ألا تكون أمامنا أعمال وأخلاق وحياة اليهود والنصارى.
والناس في الحياة ثلاثة أقسام:
أحدها: من يعتقدون أن الأحوال كالفقر والمرض ليست من الله، ولحلها لا يتوجهون إلى الله، بل إلى المخلوق، وهؤلاء هم الكفار.
الثاني: من يعتقدون بأن الأحوال من الله، ولكن لحلها لا يتوجهون إلى الله، وإنما يتوجهون إلى المخلوق.
الثالث: من يعتقدون بأن كل شيء بيد الله، والخير والشر إنما يحصل بإرادة الله، ويتوجهون في حلها إلى الله، وهؤلاء هم المؤمنون، فيقولون إذا نقص الكسب هذا بأمر الله، فيتوجهون إلى الله، ويفعلون ما فعل رسول الله في تلك الحال.
وإذا مرض أحدهم قال هذا بأمر الله ولا يرفعه إلا الله، ويفعل ما فعل رسول الله أو أمر به عند المرض.
وإذا امتنع المطر قالوا هذا بأمر الله، فماذا فعل رسول الله حين حبس الله المطر وهكذا، فلا تحل المشاكل إلا بأمر الله حسب سنة رسول الله.
والإنسان إذا دخل نور الإيمان في قلبه، رأى كل خير في الأعمال الصالحة، وجاء عنده فكر القيام بالأعمال وتكثيرها وتنويعها وتحسينها، لا فكر جمع الأموال والأشياء، ثم ظهرت شعب الإيمان في حياته.
وبسبب نور الإيمان يتعلق القلب بالخالق ولا يلتفت إلى المخلوق.
ويستأنس بالخالق ويستوحش من المخلوق.
ويرى الشيء على حقيقته.
النافع نافعاً.
والضار ضاراً.
والحسن حسناً.
والقبيح قبيحاً.
والكبير كبيراً.
والصغير صغيراً.
ويميز بين الباقي والفاني.
والرخيص والغالي.
وإذا عدم الإيمان أو ضعف رأى العكس، فرأى النافع ضاراً، ورأى الضار نافعاً وهكذا.
ومن لم يكن في قلبه نور الإيمان يرى العزة بالأموال والأشياء لا بالإيمان والأعمال الصالحة، وبذلك يحرم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وتظهر شعب الكفر في حياته من الكبر والكذب والنفاق والظلم.
وجهد الدين يشتمل على أمرين:
جهد لمعرفة الإيمان والأعمال.
وجهد لنشر الإيمان والأعمال.
فالأول لمعرفة الإيمان والأحكام والمسائل والعمل بذلك كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)} [التوبة: ١٢٢].
والثاني لنشر وإبلاغ هذا الدين لعموم الإنسانية كما قال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)} [إبراهيم: ٥٢].
وحقيقة الإيمان التوجه إلى الله في جميع الأحوال، وعدم الالتفات إلى غيره، فنرى هذا المخلوق لا يفعل ونحن نراه.
والرب يفعل كل شيء ونحن لا نراه.
فالابتلاء للإنسان هنا التفات القلب إلى أين؟، والفاعل من؟، والذي بيده الأمر كله من؟، والذي لا يقع في ملكه شيء إلا بإذنه من؟.
ولا إله إلا الله خطاب للقلوب لا للعقول، فعقول قريش موجودة، وفصاحتهم معروفة، وعقل فرعون ليس فيه خلل، كان يملك مصر سنين طويلة، واليهود والمنافقون لهم عقول يعرفون بها الحق من الباطل، ولكن الخبث والحسد في القلب، منع قبول الحق والهدى.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (١).
فالنفي يجب أن يكون تاماً شاملاً لكل شيء، والإثبات يجب أن يكون تاماً شاملاً لكل شيء.
وهذه هي حقيقة التوحيد.
فليس بيد أحد من الخلق شيء، الله بيده كل شيء.
هو الغني وكل ما سواه فقير.
هو القوي وكل ما سواه ضعيف.
هو الكبير وكل ما سواه صغير.
هو المالك وكل ما سواه مملوك.
وهو الخالق وكل ما سواه مخلوق.
وهكذا.
فله سبحانه الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وأفعاله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)} [الزمر: ٦٢].
ومحمد رسول الله خطاب للأبدان، بأن تفعل كل شيء فعله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتترك كل شيء تركه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونفي جميع طرق الأعمال، وإثبات طريقة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل عمل، في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق كما قال الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)} [الأحزاب: ٢١].
والله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فطر عباده على أنه سبحانه فوق مخلوقاته، كما فطرهم على الإقرار به، وفطرهم على الحق، وبعث الرسل بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها.
والله سبحانه غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته أبداً، وكل مخلوقاته محتاجة إليه أبداً.
وهو سبحانه مع استوائه على العرش، يحمل العرش وحملة العرش بقدرته، فهو سبحانه القوي العزيز الغني لذاته، وكل ما سواه ضعيف ذليل فقير لذاته، فلله الكمال المطلق في كل شيء، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)} [الشورى: ١١].
والقلوب مفطورة على الإقرار بالله، وحب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه.
والإيمان في القلب لا يكون إيماناً بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب، من محبة الله ورسوله، وخوف الله وخشيته، والتوكل عليه.
والإيمان إنما يكون إذا كان المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال لملخبر آمنا له، ويقال للمخبر به آمنا به، أما المشاهدات والمحسوسات فتحصل معرفتها بالرؤية القاطعة للشك.
والمؤمن لا بدَّ له من التصديق بالحق والمحبة له، وإذا قام ذلك بالقلب لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال والأعمال.
وكل ما يظهر على البدن سببه ما في القلب، وكل من القلب والبدن يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥)} [إبراهيم: ٢٤، ٢٥].
وحصول العلم والإيمان في القلب، كحصول الطعام والشراب في المعدة، فالجسم يحس ويتلذذ بالطعام والشراب، وكذلك القلب يحس بما يتنزل إليه من العلم والإيمان، الذي هو غذاؤه ودواؤه وشفاؤه.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٢) ومسلم برقم (١٥٩٩) واللفظ له.
مختارات

