آفة الرياء 2
فالأول: الرياء في الدين بالبدن بإظهار النحول والتقشف والصفار، ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل، وبالصفار على سهر الليل، وبشعث الرأس على استغراق الهم بالدين، وعدم التفرغ لتسريح الشعر.
وهذه الأسباب إذا ظهرت استدل بها الناس على هذه الأمور، فارتاحت النفس لمعرفتهم، ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم.
الثاني: الرياء بالهيئة والزي.
أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس، وحلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وغلظ الثياب، ولبس المرقعات وتشميرها إلى أعلى الساق، وترك نظافة الثياب، كل ذلك يرائي به ليُظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه.
الثالث: الرياء بالقول.
ويكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار، إظهاراً لغزارة العلم، والانتصار في المحاورات، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي ونحو ذلك.
الرابع: الرياء بالعمل.
كمراءاة المصلي بطول القيام، ومد الظهر، وطول السجود والركوع، وإطراق الرأس، ليراه الناس.
وكذلك بالصوم والصدقة والحج والغزو، وإطعام الطعام، والإخبات في المشي عند اللقاء ونحو ذلك.
الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال أن أهل الدين يتبركون بزيارته، وكالذي يكثر من ذكر الشيوخ ليرى الناس أنه لقي شيوخاً كثيرة، فيباهي بشيوخه، ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه.
فهذه بعض ما يرائي به المراءون، وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته، وتنجز الحوائج على يده، فيقوم له بذلك جاه عند العامة.
ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع الحطام وكسب المال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام.
وهؤلاء شر طبقات المرائين.
وأركان الرياء ثلاثة:
المراءى به.. والمراءى لأجله.. ونفس قصد الرياء.
أما نفس قصد الرياء.
فإن كان مراده الرياء لا الثواب فهذا ممقوت عند الله تعالى كمن يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة على الناس، ومثله من يتصدق خوفاً من مذمة الناس لا رغبة في الثواب، ولو خلا بنفسه لما أداها، فهذه الدرجة أغلظ درجات الرياء وأعلاها وأخطرها.
وإن قصد الثواب لكن قصده ضعيف، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله، فهذا قريب مما قبله، وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.
وإن قصد الثواب وقصد الرياء سواء، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، فهذا قد أفسد مثل ما أصلح، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم من العقاب.
وإن كان اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه، ولو لم يكن لا يترك العبادة فهذا قد لا يحبط أصل الثواب، ولكنه يُنقص منه، أو يعاقب على مقدار الرياء، ويثاب على مقدار قصد الثواب فهذه أربع درجات في نفس قصد الرياء
مختارات