آفة الرياء 3
وأما المراءى به: وهو الطاعات فينقسم إلى الرياء بأصول العبادات، وإلى الرياء بأوصافها.
فالرياء بالأصول على ثلاث درجات:
الأولى: الرياء بأصل الإيمان، وهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمة الشهادة، وباطنه مشحون بالتكذيب، ولكنه يرائي بظاهر الإسلام.
وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإسلام رياء ويبطنون الكفر، وهم مخلدون في أسفل النار كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥)} [النساء: ١٤٥].
وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.
الثانية: الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا عظيم عند الله لكنه دون الأول بكثير كأن يدخل وقت الصلاة وهو في جمع من الناس، وعادته ترك الصلاة في الخلوة فيصلي معهم، ولو كان وحده لم يصل، أو يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة ليفطر، أو يخرج الزكاة أمام الناس خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لا يحب إخراجها.
فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله، يعتقد أنه لا معبود سواه، ولكنه يترك العبادات والفرائض للكسل، وينشط عند اطلاع الناس عليه، فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق، وهذا غاية الجهل، وما أجدر صاحبه بالمقت.
الثالثة: أن لا يرائي بالإيمان، ولا بأصل الفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي، ولكنه يكسل عنها في الخلوة، لفتور رغبته في ثوابها، ولإيثار الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كالتهجد بالليل، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وصيام يوم عرفة وعاشوراء مذموم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ» متفق عليه (١).
أما الركن الثالث: فهو المراءَى لأجله.
فالمرائي له مقصود من الرياء لا محالة، فهو إنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وهو على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون مقصوده بالرياء التمكن من معصية.
كالذي يرائي بعبادته وتقواه، ويظهر الورع بكثرة النوافل، والامتناع عن أكل الشبهات، وغرضه أن يُعرف بالأمانة والزهد فيولى القضاء، أو الأوقاف، أو الوصايا فيأخذها.
أو يُسلَّم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو تودع عنده الودائع فيأخذها ويجحدها.
وقد يظهر بعضهم الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن، يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن، وغرضهم ملاحظة النساء والغلمان، نسأل الله السلامة والعافية.
وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى؛ لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته.
الثانية: أن يكون غرضه نيل مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة، كالذي يظهر الحزن والبكاء، أو يشتغل بالوعظ والتذكير، لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء.
فهذا رياء محظور؛ لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا، ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه، لكن عمله باطل لا ثواب عليه. «قال الله عزَّ وجلَّ: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (١).
الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ أو إدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته ويحسنها خوفاً من أن يُنظر إليه بعين النقص، ولا يُعد من الخاصة والزهاد كالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الإثنين، أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن يُنسب إلى الكسل والبخل، ويُلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لا يفعل شيئاً من ذلك.
وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء وهو غير صائم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم.
فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء، ولولا رسوخ عرق الرياء في الباطن لما ظهر في الخارج قولاً أو فعلاً.
فهذه درجات الرياء، ومراتب أصناف المرائين، وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات، ومن شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل، يزل فيها فحول العلماء فضلاً عن عامة الجهلاء بآفات النفوس وعللها.
والرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، ومن كبائر الذنوب، وإذا كان هذا وصفه فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته، ولا شفاء منه إلا بشرب الأدوية القامعة له، ومجاهدة شديدة، ومكابدة لقوة الشهوات، والعباد كلهم مضطرون لهذه المجاهدة.
مختارات