آفة الكبر 2
والفرق بين المهابة والكبر:
أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)}... [النحل: ٤٩، ٥٠].
وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي، من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، يستأثر صاحبه بالأشياء ولا يؤثر أحداً، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه.
والإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان بالله، والشعور بالخالق القاهر فوق عباده، تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو قوة أو جمال.
ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً، وهذا هو الأدب مع الله ومع الناس.
وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب، والكبر الفارغ، والخيلاء الكاذبة إلا فارغ صغير القلب، صغير الاهتمامات، يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه، فتواضع لله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (٣٧)}... [الإسراء: ٣٧].
والكبر ينقسم إلى قسمين:
كبر باطن.. وكبر ظاهر.
فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق.
وخلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر على الجوارح قيل تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر.
والكبر يظهر بثلاثة أشياء:
متكبر.. ومتكبر عليه.. ومتكبر به.
فالمتكبر بما يملك من مال أو سلطان أو علم ونحوها يتكبر على غيره، فيرى لنفسه مرتبة، ولغيره مرتبة دونه، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، وبهذه الثلاثة يحصل له خلق الكبر.
والأعمال السيئة الصادرة عن خلق الكبر كثيرة من احتقار الناس وازدرائهم والترفع عنهم، والاستهانة بهم، وآفاته أكثر من أن تحصى.
وآفات الكبر عظيمة، وبه يهلك خواص الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والعلماء والزهاد فضلاً عن عوام الخلق.
وكيف لا تعظم آفته وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْر» قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُّحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَاً، قال: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُّحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (١).
وإنما صار الكبر حجاباً دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، فالمتكبر لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، ولا يقدر على التواضع والنصح لهم وفيه الكبر.
والكبر درجات، وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له، ويقال لهؤلاء يوم القيامة: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)} [النحل: ٢٩].
والتكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام:
الأول: التكبر على الله: وهو أفحش أنواع الكبر، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان، وهو يصدر من كل من ادعى الربوبية كفرعون وغيره، وقد توعد الله هؤلاء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠)} [غافر: ٦٠].
الثاني: التكبر على رسل الله: من حيث تعزز النفس، وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس، وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره، فيمتنع عن الانقياد، وهو ظان أنه محق فيه، وتارة يمتنع مع المعرفة، ولكن لا تطاوعه نفسه للانقياد للحق والتواضع للرسل.
كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١)} [الفرقان: ٢١].
الثالث: التكبر على الخلق: وذلك بأن يستعظم نفسه ويحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم، ويأنف من مساواتهم.
وهذا وإن كان دون الأول والثاني، لكنه عظيم من وجهين:
أحدهما: أن الكبر والعز والعظمة والعلا لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟.
فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله كما قال سبحانه: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» أخرجه أبو داود وابن ماجه (١).
وإذا كان الكبر على عباد الله لا يليق إلا بالله، فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه، فالذي يسترذل خواص الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم، ويستأثر بما حق الملك وحده أن يستأثر به منهم فهو منازع لله في بعض أمره.
الثاني: أن ذلك يدعو العبد إلى مخالفة الله في أوامره؛ لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله، وتشمر لجحده، كما تكبر إبليس على آدم فقال أنا خير منه، فحمله هذا الكبر على الامتناع عن السجود الذي أمره الله تعالى به.
وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له، فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى، فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد كما قال سبحانه: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)} [ص: ٧٧، ٧٨].
ولذلك شرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبر بآفتين في قوله: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» أخرجه مسلم (١).
فكل من رد الحق وهو يعرفه، وأنف أن يخضع لله ويتواضع له بطاعته واتباع رسله فقد تكبر عن الحق فيما بينه وبين الله تعالى ورسله.
وكل من رأى أنه خير من أخيه، واحتقره وازدراه، ونظر إليه بعين الاستصغار، ورد ما قاله من الحق فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق.
وأما ما يتكبر به الناس، فإنه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال.
وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي.
فالديني هو العلم والعمل.
والدنيوي هو الرئاسة، والنسب، والجمال، والمال، والقوة.
فهذه سبعة أسباب.
فأما العلم فما أسرع الكبر إلى العلماء إذا قل عملهم، فلا يلبث العالم أن يتعزز بعلمه، فيستعظم نفسه، ويستحقر الناس، وينظر إليهم نَظَرَه إلى البهائم، ويستجهلهم، ويتوقع منهم أن يخدموه، ويستخدمهم وكأنهم عبيده وأجراؤه.
ويرى نفسه عند الله أفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، وهل هذا إلا عين الجهل والسفه في صورة العلم.
والعلم الحقيقي: هو الذي يعرف به الإنسان نفسه وربه، ويزيده خضوعاً وخشوعاً وتواضعاً لربه، ويرى أن الناس خير منه، لعظم حجة الله عليه بالعلم، وتقصيره عن القيام بشكر نعمة العلم.
فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)} [الشعراء: ٢١٥].
وأما العبادة والعمل: فليس يخلو عن رذيلة الكبر أحد، فكثير من الزهاد والعباد يرون الناس هالكين، ويرون أنفسهم ناجين، ويرون غيرهم أولى بزيارتهم لهم، ويرون أن على غيرهم توقيرهم وذكرهم لهم بالورع والتقوى، والتوسيع لهم في المجالس، وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ، وقضاء حوائجهم.
فما أجدر العالم والعابد إذا أحبه الناس لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل، وما أجدره إذا ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى أدناهم في الإهمال.
مختارات